مظفر سلمان: "النقطة صفر" الحلبية في باريس

محمد أ.شعبان

الخميس 2015/05/07
"حلب النقطة صفر"(*)، العنوان الذي اختاره المصور السوري، مظفر سلمان، لمعرضه الفوتوغرافي -المقام بدعم من بلدية باريس- والذي يضم 75 صورة، من بينها 15 صورة معروضة في الخارج، بأحجام كبيرة.

"لم آت بالجديد للناس في المعرض.."، يقول مظفر لـ"المدن". "كل ما في الأمر، أنني أردت مشاركة الآخرين لحظات جميلة من الألم السوري. ولا أطلب شيئاً عبر ذلك، فالقيمة الأخلاقية مرهونة بمدى تفاعل المتلقي مع اللقطات...".

أما "حلب"، فعنوان قد يحتاج عشرات المعارض والمجلدات لاحتوائه، لولا أن راهن المدينة يُلزمها بمفردات الحرب والقتل والدمار. أما "النقطة صفر"، فالتسمية، بحسب مظفر سلمان، ظهرت مطلع العام 2013، "بعد حصار النظام السوري للمدنيين في أحياء حلب القديمة، عمد الأهالي إلى إحداث فتحات كبيرة في الجدران، للتنقل من بيت إلى آخر بأمان (قد يصل عدد البيوت ضمن الكتلة الواحدة إلى 50 أو أكثر)، وهو ما جعل المكان أشبه ما يكون بمدينة ضمن المدينة؛ يتقاسم داخلها الأهالي شرابهم، وطعامهم، وما يتوفر لديهم. لاحقاً، اعتمد عناصر الجيش الحر الآلية ذاتها، لتأمين تحركاتهم بعيداً من عيون جيش النظام، فأطلقوا على كتلة معينة من المنازل اسم النقطة صفر، وعنها، تتفرع النقاط الثانوية، وجبهات القتال". ويضيف سلمان: "بعدما شاهدتُ الكم الهائل من السلاح الذي يُقدم للنظام السوري، فيما كانت عائلات بأكلمها تفتقر أدنى متطلبات العيش، باتت حلب، باعتقادي، هي النقطة صفر في ضمير الإنسانية..".

وفي كلمته عند افتتاح المعرض، استهل مظفر سلمان حديثه إلى الحاضرين، بالقول: "لن أطلب الوقوف دقيقة صمت حداداً على أرواح الضحايا في سوريا، لأن الآلاف قضوا، تحديداً، بسبب الصمت..". وأضاف: "يمكنكم القول أنني ما زلت على قيد الحياة، مصادفة، لكن، الحرية حتمية وهي أبعد ما تكون من المصادفة..".

لم تحل لوثة الحرب، ولا الدمار، في المدينة، من دون التقاط عدسة مظفر لتفاصيل قلما تلتفت إليها عدسات مصوري الحروب. فبرغم حضور السلاح ضمن العديد من اللقطات، إلا أنه دائماً ما يتوفر عنصر، أو أكثر، لكسر النمطية السائدة، وبالتالي، خلق مساحة للتأمل. ففي إحدى الصور، ينحني مقاتل، منحياً بندقيته، ليطعم قطة، فيما يتضمن الكادر في الخلفية مشهدية جدران وأحد أقواس المدينة القديمة. وفي أخرى، يشارك مقاتل بعض الأطفال النظر إلى أعلى؛ بانتظار معرفة مكان إلقاء الطائرة لحمولتها من الموت، فبدت البندقية عنصراً طارئاً على الكادر. وأيضاً، في صورة، تتبدى حدة وعمق التناقضات لدى المكان، وأهله. فبينما يقبض مقاتل على بندقيته، بيد، يمسك بالأخرى إبريق ماء يسقي به نبتة. 

وعن هذه التفاصيل، والتناقضات، يؤكد مظفر، "بالفعل، آنذاك، وبرغم القهر الذي أنكد عيش الأهالي، إلا أن كثيرين استطاعوا المحافظة على شيء من التوازن، بين لحظة وأخرى..". ويستذكر سلمان قصة إحدى الصور، "كانت المدينة تغرق في الظلام، فبدا وكأن نجوم الكون قد اجتمعت فوق سماء حلب. حاولت التقاط المشهد، ما دفع أحد المقاتلين للتعجب مما أفعل. لكنه، وما إن رفع رأسه، بدا وكأنه يختبر المشهد لأول مرة، فتذكر ابنته التي تعلقت بساقه، بينما كان يهم بالخروج إلى الجبهة، وكان آخر ما سمع منها، (بابا بحبك)..".

في الصور، أيضاً وأيضا، تجول عدسة مظفر، عميقاً، في التفاصيل الحياتية للأهالي، فتتبدى للناظر، بوضوح، صرخات السوريين التي صم العالم آذانهم عن سماعها، وتوق الأهالي للسلام، وحقيقة إيمانهم بحياة أفضل؛ تلك النواحي التي أغفلتها أغلفة العديد من الصحف والمجلات والتقارير الإعلامية، عن عمد، وبغيره. ففي صورة، يظهر مجموعة من التلاميذ داخل صف مدرسة، وكتعويض عن انقطاع التيار الكهربائي، استعملوا بطارية يدوية! وفي صورة أخرى، تحتضن طفلة قطتها، فيما ينفرج وجهها عن ابتسامة عذبة. وعلاوة على هذا وذاك، وفي خضم المعركة، تظهر أحد المقاتلين يسترق لحظات سريعة، رغم معرفته بأنها قد تكون الأخيرة، ليقف على ميزان، ليعرف وزنه!

حضور لافت شهده المعرض ليلة الافتتاح، حتى أن الكثيرين اضطروا للانتظار طويلاً في الخارج. وتكشّف جانب من اهتمام الزوار، تماهياً مع وقت وقوفهم، لتأمل صورة، دون أخرى. فالمسؤول الاجتماعي لبيت الصحافيين، فريدريك روا، توقف كثيراً أمام صورة لعدد هائل من الكتب تراكمت فوق بعضها البعض، فشكلت أشبه ما يكون بسَدّ، أو متراس، فعلق على ذلك بالقول: "أشعر أن شيئاً ما في الصورة يتحدث إليّ، ربما يكون حضور الكتب في ساحة حرب!". أما المخرجة السورية، هالة العبدلله، فأبدت إعجابها بالصور: "تعجبني زاوية عدسة مظفر؛ هناك سرد في اللقطات". فيما يرى الشاعر السوري، حازم العظمة، أن المعرض جميل ومؤثر، خاصة عرض الصور الكبيرة في الخارج، إذ "تمتزج اللقطات الصحافية بالهاجس الفني، وهذا جميل أيضاً؛ صار يصعب التمييز بين صنفين. حاجز آخر حطمته هذه اللحظة..".

ثمة الكثير من فتحات الجدران في صور مظفر، يتسلل الضوء من بعضها مثل بارقة أمل. الكثير من الخوف أيضاً، ومثله من الحزن والألم، لكنها لم تحل دون ابتسامات أزهرت على وجوه البعض، علها تكون "النقطة واحد" لربيع سوري آت، عما قليل.

 (*) ابتداءً من مساء الخامس من الشهر الجاري أيار/مايو، وعلى مدى أربعة أشهر، سيتوجب على المارة، عند تقاطع شارعي "شارل ميشيل" و"كوشي"، التوقف ولو لبرهة ليتأملوا الصور –الغير مألوفة في المكان- والتي تغطي واجهة مبنى "بيت الصحافيين"، في الدائرة 15 الباريسية، جنوبي العاصمة الفرنسية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024