محمد صبحي
مع ذلك، فمن المفارقات، أنه رغم تركّز أغلب الحديث المُشيد بالفيلم، حول الحيلة التقنية الرئيسة للفيلم التي تبتلع تفاصيل أكثر إثارة وإدهاشاً في تصميم الإنتاج والإعداد للمشاهد، تكمن القوة الحقيقية للفيلم في حقيقة كسره حيلته الكبرى بشكل متكرر، وأحياناً بصورة سهلة الملاحظة. وسواء كان هذا مقصوداً أم نتيجة اضطرار جمالي للمحافظة على انسيابية السرد، فالنتيجة مثيرة للدهشة أكثر من أي شيء آخر.
لا يستسلم مينديز لإغراء إضفاء أي نوع من البطولة على الحرب. كما هو الحال في فيلمه الحربي الأول "جايرهيد" (أيضاً مع روجر ديكينز خلف الكاميرا)، ويمتنع مينديز عن تصوير الحرب في المقام الأول كمواجهة بين طرفين متضادين، وبدلاً من ذلك يركّز على الحياة الداخلية لأبطالها. كل ذروة درامية تتبعها لحظة من التفكّر والانعكاس المتأمِّل، حيث يحاول بليك وشوفيلد، عبثاً، معالجة ما اختبراه. بينما نتابع في بقية الفيلم نضالهما من أجل البقاء، عن كثب وبتشويق ساحق، يبدو أن أحداث الحرب تتوقف لفترة وجيزة في تلك اللحظات لتتخذ منظوراً خارجياً، والذي، بناءً على مصيرهما الشخصي، يجعل البعد المأسوي للحرب أكثر وضوحاً. حتى النهاية لا تتحوّل إلى انتصار. يشكر العقيد ماكينزي، الجنديين، على رسالة التحذير، فقط ليضيف أن الحرب مستمرة. في النهاية، لم تُربح أي معركة، فقط، تأخّر تدمير الكتيبة.
هنا، يأخذ فيلم مينديز اتجاهاً مختلفاً وحاسماً عن سلسلة من الإنتاجات الأخيرة تتعامل مع الحربين العالميتين الأولى والثانية من منظور بريطاني. في مواجهة الأزمة الحالية في إنكلترا والانقسام العظيم بين مكونات شعبها، تتذكر تلك الأفلام أيام مجد بريطانيا العظمى وتروي قصص النجاح. في "دونكيرك" (2017، كريستوفر نولان)، يعرض نولان الأحداث الدرامية أثناء انسحاب دونكيرك، فقط للاحتفاء بأبطاله في النهاية كمنتصرين. وفي "لن يشيخوا أبداً" (2018، بيتر جاكسون) يمزج الفيلم لقطاته القديمة المجدَّدة، ليقدّم تجسيداً ملوناً وصاخباً للحرب. حتى أن "الساعة الأكثر إظلاماً" (2017، جو رايت) قدّم احتفاء كريماً يخلو تقريباً من النقد، بوينستون تشرشل، كبطل قومي منتصر. وبدلاً من محاكاتها وأسلبتها وإضفاء الطابع البطولي على الحرب باعتبارها اللحظة التي تشكِّل هوية الأمة وتقوّيها، يستخدم منديز أبطاله لبيان وحشيتها عديمة المعنى. في ذلك، لا يبتعد مينديز كثيراً عن تراث الأفلام الحربية العظيمة، "المسيرة الكبري" (1927، كينغ فيدور)، "كل شيء هادئ على الضفة الغربية" (1930، لويس مايلستون)، "وراء المجد" (1980، صامويل فولر)، "الخيط الأحمر الرفيع" (1999، تيرانس ماليك)، في التقاط جحيم الحرب وفظاعتها.
رغم ذلك، لا يهدف مينديز بالأساس لعمل فيلم تاريخي عن الحرب العالمية الأولى، لكن لإلقاء نظرة ثاقبة على ما يشبه تجربة شخص ما للحرب، من خلال محاولته خلق معايشة سينمائية "واقعية" لتجربة الحرب. بالمنطق نفسه، يختار الفيلم لأداء أدواره المساعدة الصغيرة، ممثلين بارزين، مثل كولين فيرث وبنديكت كومبرباتش وأندرو سكوت وريتشارد مادن، لإعطاء الجمهور إحساساً بأن وجود هذه الشخصيات ليس وظيفياً فحسب، وتذكيرهم بأن لديهم قصصهم الخاصة، التي ربما تكون أكبر من قصص البطلين. يلعب هؤلاء الرجال أدواراً مركزية في هذه الحرب أكثر من الجنديين الشابين، لكن قصص حياتهم تتقاطع مع قصتي البطلين في لحظات صغيرة، في إيماءة إنسانية تعطي انطباعاً بامكان إنجاز أفلام كاملة عن كل من هؤلاء الرجال الآخرين.
لا يترك "1917" أي شك حول موقفه السلمي ومناهضته للحرب. فعندما يتحدّث عن الحرب، لا يتعلّق الأمر أبداً بالبطولة أو الشجاعة، بل بذلك الخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت، بكابوس طويل ممتد تسكنه أراض محروقة وجثث رجال وحيوانات متعفنة تأكلها الفئران في حفر صنعتها القنابل وجعلها المطر بركاً مسمومة تضاء بنيران الحرب. الفيلم مقنع كتجربة شكلية وتقنية تنقل الحرب بكثافة مكتنزة، وفي الوقت نفسه انعكاس ذلك بشكل نقدي، رغم إخفاقه أحياناً في سبك امتداد لقطته الواحدة بقطع مونتاجي يتنافي مع المنطق الطبيعي، أو باقحام مشهد جُبني cheesy للغاية يقدِّم جرعة مشتتة من المشاعر وسط محرقة تستهلك ما تبقى من قرية صغيرة، لدرجة أن المرء يتساءل لماذا لم يشعر المسؤولون بالخجل عند كتابته، ولماذا لم يحذفوه من السيناريو.
مثل جاكسون في فيلمه " لن يشيخوا أبداً"، يهدي مينديز الفيلم إلى جدّه، الذي ألهمته قصصه الحربية كتابة سيناريو "1917". لكن على عكس جاكسون، لا ينقل مينديز حنيناً كاذباً، بل يقدِّم نقداً عالمياً للحرب، تاركاً وراءه محدودية التوقيت الذي يتخذه فيلمه عنواناً.
(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.
(**) رشِّح الفيلم لعشر جوائز أوسكار، العام 2020، من بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل تصوير. فاز الفيلم أيضاً بجائزة غولدن غلوب لأفضل فيلم درامي وأفضل مخرج.