"صقور الموت المعدني" في فلورنسا

هدى بركات

الإثنين 2015/11/16

 يقول الطبيب إنّ الخوف لا يراكم معرفة. إنّه مؤذ، ويصبح غير مفيد حين لا تكون مهمّته إبعادنا عن الخطر. بل إنّ هذا الخوف المتراكم قد يدفع بذاته إلى الخطر. في الإتجاه المعاكس لغريزة البقاء.

الخوف مثل الوجع. ويحتفظ الجسد بذاكرة الألم حتّى لا يعود يطيق الخفيف منه. إنّه يسجّل التكرار بالمراكمة ولا يمحو شيئا، لا تفيد التمارين سوى بمدّه بالمزيد من القوّة والسيطرة.

*** 

طيلة الليل وأنا أفكّر. السيّدة غرازيانو ستتصل في الصباح لتسألني كيف الحال. ستنتظر منّي أن أطلب إلغاء لقاء هذا المساء، أو أن يظهر منّي ما يفيد بأنّ الأمر سيبقى على ما اتفقنا عليه في العشيّة.

فكّرتُ كثيرا ولم أصل إلى قرار. فأنا- عدا عن أن لا شيء في رأسي مطلقا، لا فكرة، لا رأي، لا جملة مفيدة – قد قضيت الليل أتابع الصور على التلفزيون الإيطالي، الذي قطع بثّه لينقل عن إحدى قنوات التلفزة الفرنسيّة الإخباريّة، ليل الهجمات في باريس... بعد أن نجحُت بالإتصال بالأولاد واطمأنيت على سلامتهم حاولت بجهد كبير أن ألتقط معلومة على الموقع الإلكتروني لصحيفة لوموند، لكنّه كان معطّلا من شدّة الضغط. ولم يكن في تركيزي لفهم اللغة الإيطاليّة إلاّ ما يزيد الإنهاك.

قبل اتصال السيّدة غرازيانو قرّرت أن أقول لها إنّي مريضة جدا. إن بطني يؤلمني. لن تفهم أن يكون رأسي فرغ هكذا تماما وأنا في اليوم السابق كنت ذكيّة. لن تفهم كيف أن الإنفجار "يشفط" ما في الرأس. ثمّ خفتُ أن تأخذني إلى الطبيب. قلت إنّه من الأفضل قول الحقيقة، ولو في ذلك مجازفة. سأرجوها، هي السيّدة المثقّفة، أن تفهم كيف طار كلّ شيء من رأسي. لا عن داعش، ولا عن الثورات العربيّة، ولا عن المنفى، ولا عن المقاومة بالكتابة، ولا عن عالمنا المتغيّر ولا عن سوء الفهم الفظيع بين ضفّتي المتوسّط، ولا عن الهويّات المتعثّرة... كما كان مكتوبا في رسالة الدعوة وعناوين برنامج اللقاء على أن أختار ما أريد من اللائحة... ولا حتّى عن فحوى رواياتي أو دلالة شخصيّاتي، ولا حتّى أيّة فكرة عمّا كتبت أو لماذا كتبته... سأقف أمامها باكية أستعطفها بأني فقط أريد العودة إلى بيتي، وإقفال بابي بالمفتاح والنظر إلى الجدار الأبيض قبالتي.. والتساؤل المضني حول ما إن كان آن الأوان لدهنه مجدّدا. سيّدة غرازيانو أرجوك اعذريني. الأمر ليس خطيرا. أنا تعوّدت. منذ أيّام بيروت وأنا أعيش مع الإنفجارات. فقط أريد الآن أن تأخذيني إلى المطار.

في الصباح اتصلت السيّدة غرازيانو.

ثمّ ذهبنا إلى المحاضرة باعتبار"عيب وعلى الله".

في التاكسي ارتأت لاورا أن نغيّر قليلا في البرنامج ليتسنّى للجمهور الذي سيأتي لسماعي أن يطرح الأسئلة، خاصّة في هذا الظرف، ويريد أن يعرف ردودي... بدأت أتعرّق بقوّة. قلت إنّي أكتب روايات، أقصد إنّي لا أفهم في السياسة، أي ليس بالضرورة. قالت باقتضاب: سنتكلّم إذن عن رؤيتك كروائيّة لأحداث العالم. خطر لي أن أقول لسائق التاكسي: إلى المطار، بعدها أكتب لها رسالة طويلة عن مزاجي الفنّي. ثمّ انتبهت إلى أن شنطتي ليست معي. لحقت بها وقلت: لاورا أنا لا رؤية عندي.. الآن. بدا لي إنّها لم تسمع. وراحت تسبقني بخطوات رشيقة مردّدة: أرأيت؟ جمهور كبير!

***

كان معظم الحاضرين من النساء. وحين تتوكّل النساء بمهمّة الأسئلة غالبا ما يكون الهجوم محكما والهروب صعبا. وفيما كانت لاورا غرازيانو تقوم بتقديمي قرّرتُ أن أجيب على أيّ سؤال بأنّه "ينبغي عدم الخلط بين قيم الإسلام وإجرام الإرهابيين". تماما الجملة التي لم أعد أطيق سماعها. الجملة التي يهرب إليها الجميع، والتي يزداد خواؤها بفعل تكرارها. هكذا. أكرّرها على بعض التنويعات حتّى ينتهي الوقت ويتفرّق الجمهور على خير وبركة.

رفعت سيّدة محجّبة بكثافة يدها، فانبسط الجميع لحضورها مع ديمقراطيين مثلنا. قالت في الميكروفون الذي سارعوا به إليها: ماذا ذهبتم تفعلون في العراق؟ ثمّ في سوريا؟ هه؟ أريد إجابة من السيّدة الكاتبة. أريد أن أعرف من جاء بـ"صقور الموت المعدني" ليقتلوا الناس الأبرياء في قلب باريس عاصمة النور؟

انتبهت لاورا كم أنّها مسؤولة عن وضعي الصعب. اقتربت من الميكروفون وقالت إنّها سعيدة بالسؤال لكنّ أحدا منّا لم يذهب إلى العراق، أو سوريا. بل أنّ الشرفاء في العالم يعارضون ذهاب الجيوش الغربيّة إلى... والكاتبة؟ ما رأي الكاتبة، قالت السيّدة مقاطعة. قلت وأنا أتخبّط بين أيدي الحاضرين إنّ "صقور الموت المعدني" هو اسم الفرقة الموسيقيّة التي كانت تعزف في ملهى ال"باتاكلان" حيث جرت المذبحة التي... وهي فرقة روك، لكنّها تنادي بالسلام ولو على طريقتها .. الخاصّة. ثمّ رحت أستطرد حول الفرقة وأعضاء الفرقة و.. موسيقى الروك...

ثمّ

ثمّ أضفت بمزاج اللّعب الخالص: لكن كيف نفسّر نجاة جميع أعضاء الفرقة – الأميركيّة - من الرصاص الرشّاش رغم وجودهم على منصّة عالية وتحت الأضواء.. إلاّ، إلاّ إذا كان هؤلاء من المتآمرين مع المهاجمين؟! وقبل أن أقول إنّي بالطبع أمزح، وقف شاب وقال بصوت عال ومن دون ميكروفون: إبحث دائما عن أميركا رأس الأفعى!

يا إلهي...

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024