"سبايا" مخيم الهول: عن كل هذا الرعب الحنون

شادي لويس

السبت 2021/09/11
ما الذي يمكن توقعه من عمل وثائقي آخر عن المحنة الأزيدية؟ يمكننا انتظار الكثير بالطبع، لكن عملية استهلاك "هولوكوست" شرق أوسطي صغير، تظهر وأنها قد أوشكت على استنزاف نفسها.

الدقائق الأولى من فيلم "سبايا" للمخرج العراقي الكردي، هوجير هيروري، تعدنا بسردية مغايرة تتجاوز زوايا النظر المتوقعة والمطروقة. مهمة "مركز البيت الأيزيدي" في البحث عن الفتيات الأيزديات المختطفات داخل مخيم "الهول"، تأتي مصحوبة بكثير من الإثارة المتوترة الأقرب إلى الرعب، شد أجزاء الأسلحة وصوت تكّاتها، مع الظلمة المسيطرة على المشاهد والمطاردات في الطرق على وقع زخات الرصاص. تتكثف تلك الإثارة عبر وعينا بأن الخطر حقيقي، ولا شيء يحدث على سبيل التشويق. يقاطع ذلك التوتر العنيف، وجه محمود، أحد متطوعي المركز، ويعطله، نظرة هادئة بمسحة بيروقراطية، ملامح لا توحي بمشاعر بعينها، أو ربما تخفيها عمداً، ومع هذا لا يمكن التشكيك في نواياها، الأنف الكبير والمعقوف كمنقار طائر جارح يضيف إلى هيئته المزيد من الصلابة، صلابة فيها مسحة من حنان مكبوت تحت طبقات من ثقل الشعور بالمسؤولية. 


تتابع الكاميرا، الروتين اليومي لمحمود. شبكة الهاتف الضعيفة دائماً، نسمع بين تقطعاتها الرسائل الدورية من أسر الفتيات المخطوفات، تلك التي يستمع إليها محمود ويرد على أصحابها، وكأنها رسائل لأقارب بعيدين، بخليط من وقار رسمي ومودة عائلية، يطمئنهم ببعض من الكردية وبعض من العربية إلى أنه سيجدهن قريباً. وبين الحين والآخر، يقوم بواحدة من مهماته الخطرة، بشكل روتيني، توصيل مرشدات جديدات لاختراق المخيم وجمع البيانات عن أماكن احتجاز السبايا داخله، عمليات الاقتحام الليلية للخيام، بعضها لا يصل إلى شيء، والبعض الآخر ينجح في تحرير واحدة من الفتيات، فتطاردهم بعدها سيارة تبدأ في إطلاق النار. يقوم محمود بهذا كله ببرود محقق سريّ متمرّس، كما في الأفلام. يجمع المعلومات عبر شبكة من المصادر على جانبي الحدود، ليركب أجزاء اللغز، قطعة قطعة، واحدة تقود إلى الأخرى. يصل الأسماء الأيزيدية للفتيات، بأسمائهن الجديدة التي فرضتها عليهن "داعش"، ليرسم خط انتقال كل منهن، وصولاً إلى آخر موقع تمت رؤيتها فيه. وبانهماك، يلصق، وشريكه زياد، مئات الصور، ويتأمل كيف غيرت خمسة أعوام من الأسر ملامح الوجوه. 

في بُعد موازٍ، يظهر بعيداً ومنفصلاً عن هذا كله، ينتصب بيت محمود، قلعة متواضعة في الخلاء، أو مثل واحة للدعة داخل الجحيم. دجاجات تجري في الساحة، وكلب يلعب وسط مساحات منبسطة من الخراب الهائل، تتصاعد من جونبه أدخنة الحرائق والخطر. تتابع الكاميرا وصول الفتيات الناجيات إلى البيت، وفزعهن من خلع النقاب في البداية، ثم انخراطهن في روتين الحياة المنزلية، الطبخ ولعب الابن وضجته المضحكة. ينتزع الفيلم ضحكات عالية ومدهشة وسط الكثير من الحزن المتحفظ. تتفادى كاميرا هيروري، استنطاق الضحايا، وتأخذ مسافة تكتفي بالملاحظة المعنية بتوقير موضوعاتها، فتلتقط في تفاعلات الأجساد واللغة بين الفتيات، وبين زوجة محمود وأمه والابن الشقي، حناناً غامراً وبسيطاً، تلتئم به جراح سنين من الرعب والقسوة. في هذا، يتوارى محمود ورفيقه، وتظهر البطلات الحقيقيات، ومن بينهن الفتيات اللواتي تطوعن لخوض مخاطرة اختراق المخيم والعيش فيه متخفيات لإنقاد غيرهن. 

يبسط أمامنا "سبايا" الواقع الزلق وسريع التغير لمنطقة العمليات، فالمخيم يقع تحت سيطرة القوات الكردية السورية، لكن خيمه تمتلئ بعناصر "داعش" المسلحة الذين يقومون بعمليات داخله وانطلاقاً منه. ويأتي الخطر من جهة أخرى. فالقوات التركية تشن هجماتها المفاجئة ضد الأكراد. وعلى أرضية ذلك الواقع الملتبس، يقف محمود، المتطوع في جمعية صغيرة، ليمارس أدواراً متباينة. ففي حين أنه أصبح هدفاً لهجمات "داعش"، يمارس دور السلطة، سلطة شبه مطلقة. فبدعم من القوات الكردية، يقوم بعمليات الاقتحام والتفتيش والاستجواب والتوقيف داخل المخيم وخارجه، بل وفي أحد المشاهد الذي يبدو استعراضياً لصالح الفيلم لا أكثر، يُسمح له بدخول أحد السجون للقيام باستجوابات عشوائية وبلا هدف لسجناء من "داعش".

في واحدة من الاقتحامات، يستعرض محمود ورفاقه، عشرات من فتيات ونساء المخيم، بغية أن تتعرف واحدة من مرشداته على السبايا الأيزيديات بينهن. تمر الواحدة بعد الأخرى في استسلام لحملقة عشرات العيون المتفحصة وللكاميرا ولأوامر كشف وجوههن وأوامر الحركة بتلويحات البنادق والأسلحة الآلية. لا تبدو تلك النساء الأخريات ومصيرهن وما مررن به و ما سيمرُرن به، في دائرة اهتمام الفيلم ولا أبطاله، إلا أن المشهد يدفعنا، من دون قصد على الأغلب، إلى مسألة مفهوم النجاة وانتقائياتها وانتهاكاتها المحتملة. 

لا تنتهي معاناة السبايا الأيزديات بعد تحريرهن. ففي أحد المَشاهد الأخيرة المفعمة بالعواطف المتوترة، تُجبَر امرأة على التخلي عن رضيعها الذي ولدته لأب "داعشي"، حتى يقبل أهلها بعودتها إلى سنجار. ولعل هذا المشهد هو أكثر ما يظل عالقاً في الذهن، والأم تبكي وتردد بيأس مستسلم: "هو رضيع.. هو لم يُجرِم في شيء". 

• يعرض الفيلم حالياً في الصالات البريطانية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024