ليلى سليماني.. عن الجنس والأكاذيب

نزار آغري

الإثنين 2020/09/28
عندما أصدرت ليلى سليماني روايتها الأولى "في حديقة الغول" العام 2014، عبّر بعض الصحافيين الفرنسيين عن دهشتهم من قيام امرأة مغربية بكتابة نص طافح بالجنس. قصة امرأة مدمنة على الجنس.
والرواية بالفعل حافلة بالجنس، الذي يكاد يطفر من كل صفحة. بطلة الرواية مهووسة بالجنس تنتقل بين الرجال بشكل محموم. لا تمل ولا تكل.

آديل، بطلة الرواية (تُرجمت الرواية إلى الإنكليزية تحت عنوان "آديل")، الصحافية، التي تنعم بحياة مستقرة في كنف زوج يحبها، ووسط اجتماعي دافيء، تركل كل شيء جانباً وتركض خلف شهوتها التي لا ترتوي للجنس. هي مدمنة جنس وحسب. لا حب، لا غرام، لا شغف. جنس ميكانيكي ينتهي مفعوله بانتهاء الجلسة الحميمة.

لكن ما الذي تريد أن تقوله الكاتبة في رسم بطلتها بهذه الصورة الصارخة، التي تتخطى كل ما هو مألوف في علاقة المرأة، أي امرأة، بالرجل، أي رجل؟

لا نعثر على الجواب في متن الرواية ونحسب أن الكاتبة إنما تسعى في كتابة نص صادم كي تقتحم به عالم الكتابة الروائية وتصنع لنفسها اسماً في هذا الميدان، بأي ثمن.

الحال أن النص يعاني ضعفاً في النسيج السردي. هناك هشاشة في ربط الوقائع وتضعضع في البنية الحكائية حتى ليبدو الأمر أشبه بتمرين مدرسي على كتابة قصة. البطلة تنتقل من حضن إلى حضن من دون مقدمات، من دون تمهيد، من دون تبرير.

كان يمكن لهذا النص أن يمر ويرقد في الأدراج الخلفية للمكتبات لولا أن الكاتبة اجترحت رواية ثانية، هيأت صورة مغايرة تماماً لنفسها وللنص الروائي. أتكلم عن روايتها "أغنية حنونة"، (ترجمت إلى الإنكليزية بعنوان "هدهدة"): رواية قوية، محكمة البناء، قوية التركيب، غنية بالتشويق والغوص في أعماق الشخصيات، لا سيما شخصية المربية التي تفيض حناناً ورقة وطيبة وهدوءاً و… تقتل الطفلين اللذين تربيهما.

الرواية ناجحة بكل المعايير والكاتبة تتفوق على نفسها وتبرع في إنجاز نص روائي كامل الأوصاف. يكاد واحدنا لا يصدق أن من كتبت هذه الرواية هي نفسها التي كتبت سابقتها، حيث كان هناك لهاث غير منطقي خلف غريزة شهوانية للبطلة بأسلوب سطحي غير متقن، وفي الرواية الأخرى سير هادىء، موزون، في تتبع الإنعطافات الحادة، المؤلمة، التي ترقد في أعماق البطلة.

هناك، آديل وحش جنسي جائع، لكن غير مقنع، وهنا تطل لويز إنسانة رقيقة، لكن قاتلة. خلت الرواية الأولى من القدرة على الإثارة وتشبيك القارىء في سطور النص فيما استطاعت الرواية الثانية الإمساك بنا من الصفحة الأولى وحثنا على المضي مبهوتين، مبهورين، ساعين إلى ما سيحل في اللحظة التالية.

لماذا كتبت سليماني رواية "في حديقة الغول"، إذن؟ 
نعثر على الجواب في نص ثالث كتبته وأصدرته بعنوان "جنس وأكاذيب"، عن دار غاليمار.

هنا تتحدث في الموضوع الذي أثارته في نصها الروائي الأول، لكن بعدما نزعت عنه ثوب الرواية. ما فشلت في إيصاله في قالب روائي أنيق، قدّمته للقارئ في قوام تحقيق صحافي رشيق.

هي تتحدث عن الجنس باعتباره مصدراً للمتاعب والعذاب والحرمان والحرام. هذا الحال يدعو الناس إلى اتخاذ سلوك منافق يتستر بالعفة التي لا تعني أي شيء في نهاية المطاف. وهذا السلوك يخلق شخصيات محطمة يتآكلها الندم والشعور بالذنب.

لنركز هنا على أن الكاتبة تتحدث عن واقع الحال في بلدها الأصلي، المغرب، فيما تطرح بلدها الجديد، فرنسا، كبديل نقيض.

بطلة الرواية آديل، تقول سليماني، هي تجسيد لكل الفتيات المغربيات.
بعد صدور رواياتها الأولى، قامت بجولة في بلدها الأصلي، المغرب، وشاركت في حفلات توقيع الكتاب في المدن المغربية. هناك التقت بعدد هائل من الفتيات اللواتي هرعن إليها وروين قصصهن لها. قصص الجنس الممنوع. التابو. الحرام.

من حكايات تلك الفتيات، نسجت سليماني قماشة كتابها "جنس وأكاذيب".
هي تستعين بكلمة "حشومة"، المشتقة، كما هو واضح، من الحشمة والاحتشام، وتعني في السياق المغربي، العيب والعار. هذه الكلمة تدخل في قاموس النساء المغربيات منذ الطفولة. تفتح الفتاة عينيها على المكان الذي ولدت فيه لترى نفسها فيه محاصرة، معزولة. هناك ينفتح سمعها على كلمات الحشومة والعيب والعار والحرام. تمتلئ حواسها الخمس بما يسِمها بالخطأ والخطيئة. كل خطوة تخطوها محفوفة بالخطر. يمكن لها، في أي ركن، أن تقع إما ضحية الإعتداء والإغتصاب أو فريسة الرغبة والشهوة، وهذه أفظع.

أن تكون امرأة آمنة، مصانة، يتطلب منها على الدوام أن تخفض رأسها وتغض نظرها وتصم أذنيها وتخفي معالم جسدها.

ظاهرياً يبدو وكأن كل شيء على ما يرام. صراط مستقيم وسلوك قويم وعفة وحشمة. فلا داعي إذن للشعور بالحشومة والعار. 

تقول الكاتبة إن النظرة الخارجية تبين كما لو أن كل الفتيات العازبات هن عذراوات. وأن كل الشبان لم يمارسوا الجنس أبداً قبل الزواج. لا علاقات غرامية، لا لقاءات في السر، لا عاهرات، لا علاقات مثلية. لا يخطر الجنس في بال الفتيات والشبان. إنهم محصنون بدرع العفة ومزنرون بحزام الحشومة.

الكل يعرف أن هذا كذب. الكل يخرق القوانين والتابوات والأعراف والمحرمات، لكن الكل يغمض العين ويسد الأذن. السلطات تدير ظهرها، لأن هكذا هي حال الدنيا. المغرب ليس استثناء.

من اللقاءات التي أجرتها الكاتبة مع الفتيات التي أردن التحدث إليها، رسمت الكاتبة لوحة بانورامية فسيحة عن واقع الحال المخفي خلف الأقنعة والستائر. هي لوحة تمتلئ جوانبها بصنوف الرياء والنفاق والازدواجية والخداع. خداع الذات والآخرين معاً. الناس ليسوا ملائكة، غير أنهم يرتجون أقنعة الملائكة كي يُخفوا إنسانيتهم ويلبوا رغباتهم وشهواتهم في الخفاء.

كانت آديل، إذن، صورة كاريكاتورية عما يدعيه المجتمع حين يعلن أن أفراده طيور الجنة يرفرفون عالياً فوق الأهواء والنزوات.

كانت آديل تقول إن النساء نساء، لهن أجساد، تشتهي وتجوع، مثل الرجال تماماً. 
تروي إحدى النساء واقع تعرضها للتحرش الجنسي من أحد أقاربها عندما كانت في الخامسة من عمرها. وذلك لم يحطمها فحسب، بل كسرت قيداً كان يمكن أن يكبلها طيلة حياتها. أدركت أن المتحرش بها، فعل ذلك مدفوعاً بجوع جنسي، وأن في وسعها، كي لا تتحول إلى وحش مثله، أن تسد جوعها الجنسي بطريقة عاقلة. أرادت ألا ترضخ، فقررت أن تكون رجلاً وصممت أن تذهب إلى بار ليليّ وتختار رجلاً وتقيم معه علاقة جنسية. فعلت ذلك. "كان شيئاً رائعاً".

"جنس وأكاذيب" هو، إلى حد كبير، دليل القارئ لقراءة رواية "في حديقة الغول".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024