هل أغلقت مدرسة الفن المصري أبوابها؟

شريف الشافعي

الجمعة 2021/11/12
بالقدر ذاته من الفخر والاعتداد بالتجارب التشكيلية المصرية، الريادية والطليعية، المنتشرة والمُقَدّرة فنيًّا في كل مكان، والمُحتَفَى بها قديمًا وحديثًا في كبريات صالات المزادات العربية والعالمية، تتولّد مشاعر معاكسة من الأسف والإحباط لغياب الأسماء المعاصرة من فناني الأجيال الحالية عن هذه الكرنفالات الدولية، ما يعكس تراجعًا واضحًا لحركة التشكيل المصرية خلال السنوات الماضية، شأن فنون وآداب وإبداعات كثيرة من مقوّمات القوة الناعمة المنفرطة.

من السهل بمكان، وهذا ما يكتفي به الدعائيون والراغبون في التعمية على حقيقة المرحلة الراهنة، اتخاذ حضور الراحلين من التشكيليين المصريين الكبار في المحافل والمزادات المرموقة حتى يومنا هذا مؤشرًا لسطوح شمس المدرسة المصرية في التشكيل على الصعيد الدولي من الوجهة الجمالية والفنية المجردة، وكذلك على المستوى التسويقي نظرًا للأرقام العالية التي تُباع بها أعمال هؤلاء الفنانين المبدعين. لكنّ الأصعب، نظرًا لأنه الأصدق، هو اتخاذ هذه الاحتفاءات والتقديرات المتتالية للفنانين "الغائبين عن دنيانا" منطلقًا للسؤال عن الفنانين الأحياء "الغائبين عن هذه المحافل"، وأين هم من مسيرة تطور الفنون التشكيلية وتفوقها، وهل لا تزال المدرسة المصرية فاتحة أبوابها فعلًا وقادرة على مجاراة نظيراتها في الخارج والإدلاء بدلوها في صياغة الاتجاهات والتيارات الفنية الحديثة؟

بين حين وآخر، يجري الاهتمام الإعلامي المكثف ببريق "الحضور المصري" في ملتقيات التشكيل الدولية ودور المزادات الكبرى مثل "سوثبي" و"بونهامز" في بريطانيا و"كريستيز" في دبي وغيرها، وإذ بهذا البريق يقود إلى النجوم الأولى ذاتها التي لم تتغير منذ فترة بعيدة. من ذلك، على سبيل المثال، ما احتواه مزاد سوثبي منذ أيام قليلة (أكتوبر/ تشرين الأول 2021) من لوحات فذة صُنّفت ضمن الأكثر رواجًا في العصر الحديث، لصلاح طاهر، ومنير كنعان، وآخرين. ومن قبله بأشهر قليلة، مزاد "بونهامز" في لندن، الذي شهد أعمالًا لمحمود مختار ومحمود سعيد وآدم حنين وعمر النجدي وتحية حليم وجورج حنا صباغ ومنير فهيم وغيرهم.


(حامد عويس)

وقد بيعت بعض أعمال النابهين المصريين من الرواد والطليعيين بأرقام كبيرة، منها لوحة "العاطل" لمحمود سعيد (1897-1964) في ديسمبر/كانون الأول الماضي في مزاد "بونهامز" في لندن بـ25 مليون جنيه مصري (قرابة 1.6 مليون دولار). وسبق للفنان ذاته أن بيعت لوحته "هانم" بأكثر من 420 ألف دولار في دار كريستيز في دبي، وهي الدار التي شهدت كذلك بيع لوحته الأشهر "الدراويش" مقابل حوالي 2.5 مليون دولار منذ بضع سنوات، لتسجل وقتها كأغلى لوحة عربية وشرق أوسطية لفنان معاصر. وكذلك بيعت لوحات كثيرة لفنانين آخرين راحلين بأرقام عالية، منهم حامد عويس وعبد الهادي الجزار وحسين بيكار وحامد سعيد، وغيرهم. وبيع في مزاد سوثبي بدبي تمثال سعد زغلول للنحات الرائد محمود مختار بأكثر من 212 ألف دولار، إلى آخر هذه الوقائع المتتالية المتكررة، التي تتجاوز كونها مجرد حالات فردية.

هي ظاهرة فعلًا، تؤكد رسوخ المدرسة التشكيلية المصرية وأصالة ملامحها في أعمال الروّاد والمؤسسين والطليعيين من هؤلاء الذين لم يقتصروا على مواكبة حركة الفن العالمية، وإنما أسهموا في تطور منجزها، وأضافوا إلى الرصيد الإنساني المتراكم. ولقد فطن هؤلاء الرموز جيدًا أنهم أبناء حضارة أولت الفنون البصرية عناية استثنائية عبر التاريخ، ومن شواهد هذا الإرث الفريد التماثيل الفرعونية ذات الأحجام المتفاوتة والدلالات الفنية المتشعبة، واللوحات التصويرية المحفورة، وإبداعات الرسم والنقش والنحت والهندسة المعمارية الإعجازية في المعابد والمقابر والسدود وغيرها، وعلى رأسها الأهرامات وأبو الهول والمتاحف المفتوحة في الأقصر وأسوان، ومن بعدها تجليات الفنون البصرية والعمارة في العهدين القبطي والإسلامي.

ولقد تمكّن الآباء والروّاد من فناني مصر النهضويين من تحقيق منجزهم في الفن التشكيلي الطليعي والحديث بفضل عوامل كثيرة حولهم، إلى جانب ملكاتهم الفردية الفذة وتحصيلهم المعرفي الواسع بطبيعة الحال. وهذه العوامل التي تشكل المناخ الملائم المحيط بالفنان، هي التي تغيرت على نحو كبير في مراحل لاحقة، ليؤدي الطقس الغائم الحالي إلى اختناق الأفق وتراجع مدرسة الفن المصرية.

إن محمود مختار (1891- 1934)، صاحب تمثال "نهضة مصر" الشهير، ومحمود سعيد (1897-1964)، ورفاقهما، لم يكونوا ليسطّروا ملحمة نبوغهم وتوهجهم المستمرة إلى هذه اللحظة لولا أن لحظتهم الخاصة كانت منفتحة على سياق عام يقدس الحرية ويقدر الفن، وفي إطار وعي جمعي وإدارة مؤسسية مستعدة دائمًا لبذل جهودها وإنفاق مدخّراتها من أجل الاهتمام بالإبداع ورعاية المبدعين. ووصلت هذه المساعي الرسمية والشعبية معًا إلى أن يغدو الفن لغة للشارع، وأن يهدف الفنانون والجمهور والسلطة في آن واحد إلى عرض التماثيل في الميادين العامة، ويتهافت المهتمون على اقتناء اللوحات وشرائها وتزيين منازلهم بها.


(منير كنعان)

هي لحظة كانت للبناء والتنوير ومدّ إشعاعات الفن والفكر والجمال على كل المستويات، وهو ما عبّر عنه بوضوح عنوان تمثال مختار وطبيعة تكوينه "نهضة مصر"، وكانت المؤسسة الثقافية في مقدمة الجهات الآخذة بعوامل تعزيز الشعور الوطني والهوية الحضارية وتنمية عمليات التحديث والسعي إلى التقدم الحقيقي. واقترن نجاح هذه التجارب بالحرية، بل إن إحدى الجماعات الفنية في أربعينيات القرن الماضي اختارت أن تسمّي نفسها "جماعة الفن والحرية"، ومن أعضائها البارزين رمسيس يونان، وجورج حنين، وفؤاد كامل.

ولعله ليس خفيًّا أن تراجع مدرسة الفن المصرية خلال السنوات الأخيرة يعود إلى انقلاب الكثير من هذه الأمور والاعتبارات سالفة الذكر إلى نقائضها، على الصعيد المؤسسي العام، وإدارة الفعل الثقافي بوجه خاص. فمن الجدية إلى الاتكالية، ومن الجوهرية إلى الشكلانية، ومن التخطيط إلى العشوائية، ومن الإنجاز الفعلي إلى الادعائية والشعارية، ومن التطلع إلى الأمام إلى الاجترار وعبادة الماضي والانفصال عن العصر، ومن إعلاء شأن الثقافة إلى تهميشها والانفضاض عن دعمها، ومن تقدير المبدعين المستقلين والاستفادة من منجزاتهم وآرائهم الكاشفة إلى تدجين مثقفين مسيّسين ومأجورين واستعمالهم كببغاوات يجري تلقينها، ومن إسناد المهامّ إلى مستحقين ومختصين إلى الاعتماد على أهل الثقة والحظوة من الموظفين ومنفذي الأوامر بغير قدرة على المناقشة والتحليل. وطبيعي أن إبداعًا تابعًا وموجَّهًا ومحاصَرًا بالقيود، ولا يُراد له أن يقود القاطرة المتعطلة، سيظل في مؤخرتها عاجزًا عن الفعل والتحرك.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024