خريطة بيروت الفنية: مارمخايل- الجميزة وسط المدينة الجديد؟

حسن الساحلي

الأربعاء 2019/09/25
وفق الخريطة الفنية التي أصدرتها مجلة Agenda Cultural منذ أيام، تظهر أحياء مارمخايل والجميزة أنها الجاذب الأساسي للحركة الفنية في بيروت، حيث تستضيف النسبة الأكبر من الغاليريهات والمراكز الفنية، بينما يتوزع الباقي على وسط المدينة (مينا الحصن، والصيفي فيلدج) رأس بيروت التي كانت يوماً المركز الثقافي للمدينة، مروراً بأحياء فرن الحايك (الأشرفية) وحي الصيفي المجاور للمرفأ.


تميل الكفّة اليوم بشكل واضح إلى شرق بيروت، لكن ليس أبعد من مشارف برج حمود والسوديكو، مع غياب واضح لضواحي المدينة بشكل عام. الإستثناءات الوحيدة هي متاحف وليس صالات عرض عادية: متحف "آيشتي" في الزلقا، متحف "مقام" في جبيل (يمتلك أكبر مجموعة منحوتات وتجهيزات فنية في لبنان)، ومتحف "نابو" قرب البترون القادم حديثاً إلى المشهد.

تتنوع الغاليريهات بين المخصصة للتصميم أو الفن التشكيلي، وبين التي تركز على أنماط معاصرة مثل التجهيز والفيديو وغيرها. هناك عدد كبير من الغاليريهات التي أسسها فنانون بالأصل لعرض أعمالهم فيها (كارين شيكدرجيان، ندى دبس...)، وأخرى اسسها جامعو لوحات لعرض مجموعاتهم (شريف تابت، آليس بريدي ...). هناك عدد جيّد أتى من الخارج مع انتعاشة القطاع الفني مؤخراً مثل غاليري مارك هاشم (تمتلك فروعاً في نيويورك وباريس)، وغاليري "تانيت" (ميونخ)، غاليري صفير زملر (هامبورغ)، مقابل غاليريهات غير لبنانية في الأصل مثل "أوبرا"، Carre D’artist.

يسود أيضاً نمط من الغاليريهات التي تركز على منطقة من العالم مثل اميركا الجنوبية (ٍ"ساوث بوردر")، افريقيا ("بيلفيدير")، أرمينيا ("روشان" و"آرام")، من دون أن ننسى غاليريهات في عدد من الفنادق، مثل فينيسيا، ولو غراي، وأخرى تملكها شركات تجارية ومصارف.

ورغم أن العدد الأكبر من الغاليريهات موجود بشكل عام في مارمخايل – الجميزة والجوار، إلا أن أحياء راس بيروت والروشة والصنايع، تستقبل غاليريهات ومؤسسات، تعتبر من الأعرق في المدينة، مثل غاليري "جانين ربيز" الذي يعتبر امتداداً لغاليري تأسس في العام 1963، غاليري "أجيال" في رأس بيروت الذي يملكه ويديره صالح بركات، أحد ابرز الفاعلين في المجال ومن أول من روج الفنانين اللبنانيين والعرب في الخارج، وغاليري "زمان" في الحمرا (يمتلك 1700 عمل فني)، ومؤسسة دلول (تدير مجموعة مؤلفة من 4000 قطعة فنية). مع العلم أن غاليريهات مهمة عديدة، افتتحت أيضاً خلال السنوات الماضية مثل غاليري "ليتيتيا" في الحمرا، الذي ينظم دورياً معارض لأبرز الفنانين المكرسين محلياً... و"دار النمر" الذي افتتح منذ سنوات قليلة أيضاً في مكان غير بعيد عن غاليري "صالح بركات" (يروج لفنانين فلسطينيين ويستقبل عروضاً فنية وندوات).



لا يعني هذا أن غاليريهات مارمخايل والجميزة أقل عراقة، فخلال السنوات الماضية شهدت بيروت ازدياداً في أعداد الغاليريهات بشكل كبير وذلك مع ازدياد فرص الإستثمار في الفن، وقد اختارت أكثرية الغاليريهات الجديدة أحياءً يمكن ان تضعها على تماس مباشر مع جمهور الفن بالمدينة، بينما تُكوّن مع الوقت جمهورها الخاص، مقابل غاليريهات أقدم ومكرسة في المشهد الفني منذ عقود.


تجربة مسرحية على درج مار مخايل (المدن)

تعتبر الأحياء التي تنتشر فيها الغاليريهات، هي الأغلى عقارياً في بيروت، ما يعطينا فكرة عن نوعية الزبائن التي تحاول جذبها. طبعاً نتحدث عن غاليريهات غالبيتها تجارية الطابع، يتداخل عملها مع مجالات إستثمارية ومصرفية، وهي الموجة الغالبة محلياً أقله منذ عقد من الزمن، مع العلم أن هناك أيضاً غاليريهات ومراكز فنية غير تجارية تعتمد حصراً على التمويل الخارجي والتبرعات وتضم في برامجها فعاليات، ندوات أو ورش عمل، لكن تبقى نسبتها ضئيلة أمام الأولى (بعضها يقدم إقامات فنية مثل "ميشن"، "إيماغوس" و"بيروت آرت ريزيدانسي").

اختيار مارمخايل والجميزة يبدو بديهياً ربما، بما أنها الأحياء الأكثر نشاطاً من الناحية السياحية في بيروت، وتعتبر المقصد الرئيسي للأوروبيين والعرب في آن، واللبنانيين من الطبقات الوسطى والغنية. تعطي هذه الأحياء صورة عن بيروت أكثر تحرراً وانفتاحاً، وحياتها الليلية تجعلها مكان "حيّا" أكثر من غيره، وكثيراً ما تسمع أوصافاً تشبّهها بالبوهيمية والعبثية. تعتبر هذه الأحياء أيضا مسكناً أساسياً للعاملين في المجال الفني من منسقين، جامعي لوحات، فنانين، وبشكل خاص الدوائر الفرانكوفونية والكوزمبوليتية منهم، بشكل شبيه لما كانته رأس بيروت قبل عقود من الزمن.



من إيجابيات هذه الأحياء أيضاً أنها متداخلة مع الأحياء السكنية، وتمتلك مباني قديمة إجمالاً تعطي انطباعاً بوجود إرث ثقافي واجتماعي، بعكس مباني وسط بيروت مثلاً، التي تبدو إصطناعية وفاقدة للروح. لكن مع ذلك، هناك غاليريهات قررت الإستقرار في مبانٍ مختلفة و"ما بعد حداثية" في مارمخايل والجوار، مثل المبنى الذي يوجد فيه "غاليري تانيت" ("إيست فيلاج" من تصميم جان مارك بونفي)، ومبنى "مركز مينا للصورة" في الصيفي (تصميم لينا غطمة)، والإثنان تكلفتهما تعد بعشرات ملايين الدولارت.

يوجد أيضاً عدد جيد من الغاليريهات التي اختارت التمركز في أمكنة ذات طابع صناعي، كما هو الحال مع مبنى "صفير زملر" في الكرنتينا الذي ينقل زبائنه أحياناً عبر مصاعد الآلات، وغاليري "مرفأ" الموجود في معمل سابق لصيانة الزوارق، و"مركز بيروت للفن" الذي انتقل مؤخراً إلى مبنى كان مصنعاً للمفروشات قرب سوق الأحد، بالإضافة إلى "مقام" الذي كان مصنعاً للباطون وحوّله صاحبه سيزار نمور متحفاً يشرف عليه شخصياً أليوم. السبب لابتعاد هذه المراكز الفنية التي تعتمد بالغالب على مساعدات مالية، هو الإستفادة من أكبر مساحة ممكنة بسعر مقبول نسبياً، لكن أيضاً يمكن رؤية هذا الخيار محاولة للنأي بالنفس عن الغاليريهات الأخرى وإيجاد مساحة مستقلة تقريباً عنها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024