"أسد البصرة" فسيفساء عراقية من حروب ثلاث

إيناس العباسي

الأربعاء 2016/08/03
ا يمكن للعين أن تفلت من عنوان مثل "أسد البصرة"، عنوان الرواية الجديدة للكاتب العراقي ضياء جبيلي والخامسة في ترتيب اصداراته الروائية.

ينطلق الجبيلي في روايته بحوار متخيل بين الشخصية الرئيسة أمل، وكاتبه المفضل ماريو بارغاس يوسا. يحكي أمل ليوسا ولنا معه حكايته العجيبة الجديرة بالتدوين في رواية عالمية يكتبها صاحب نوبل بمناسبة زيارته المرتقبة لبغداد. ولئن استند الجبيلي على هذا الحوار الذي يتدرب عليه أمل بكلمات منتقاة بعناية، إلا أننا سرعان ما ننسى يوسا واللقاء الموعود ويجرفنا الايقاع السريع والمتوتر للأحداث. ننجرف في ملاحقة تفاصيل حياة أمل منذ ولادته وما قبلها إلى زمن سرد الرواية. أمل الذي نتج كثمرة حب بين "مائير"، المترجم اليهودي والطباخة الأرمنية "نوفا"، الحب الذي حُورب بعنف ورفض شديدين من قبل عائلتيهما وكُلل بالزواج بعد سنوات من الصد والرد، وانتهى نهاية مأسوية وغامضة بموت "مائير" وانتحار "نوفا"، وفي اشاعة أخرى اختفيا في ظروف غامضة وتُركت ثمرة الحب من دون أبوين.

هكذا تُرك أمل لعمة يهودية وخالة أرمينية مختلفتين طوال الوقت ومتحاربتين لأسباب دينية وإثنية لكنهما اتفقتا لمرة واحدة، وكان الاتفاق حول المصير الأفضل لأمل. هكذا قررتا أن الانسب للرضيع أن يتم  تبنيه من عائلة مسلمة تنتمي للأغلبية، أغلبية الشعب السنّي وعكس الأقليّة التي تنتميان لها حسب تفكيرهما، ولئن اختارتا هذا المصير للصبيّ إلا أنهما ظلتا كحجري أساس في حياته. هكذا حمل الصبي ثلاثة أسماء، "موشي" تناديه الخالة الأرمينية "ميساك" و"خاجيك"، كما تناديه عمته اليهودية "هيلا"، واختار والداه بالتبني جمال وحنان أن يسجلاه رسميا وينادياه باسم أمل.

قسم الكاتب روايته إلى ثلاثة أقسام ولئن كان الأول أقصرها وأسرعها، فإن القسم الثاني الطويل نسبيا مقارنة بالقسمين الأول والثالث، هو أكثر الأقسام تنوعا كثيمات وجاء فيه السرد مكثفاً وثريّاً بالأحداث العامة التي عصفت بالبصرة كمدينة وبالشخصية أمل وبحياته بكل تعقيداتها. ومن أهم الثيمات التي تطرق لها الكاتب ثيمة الطفولة بكل أسئلتها البريئة والعميقة في الوقت نفسه، أسئلة تقارب الأسئلة الوجودية رغم براءتها وفي ظل شخصية طفل مثل أمل تتصارع على عقله وقلبه ثلاث ثقافات أصبحت لهذه الاسئلة فرادة خاصة. حيث نجح ضياء الجبيلي وبطريقة في نقل مشاعر الفضول والأسئلة التي يطرحها أمل ازاء العالم والعلاقات من حوله والاشياء. وطرح تفسيراً مهماً للكثير من العقد التي يحملها الانسان كراشد، وفسر تشكل هذه العقد بأنها نتيجة للاجابات الخاطئة والسطحية التي يتلقاها الأطفال في طفولتهم حيث تتضاعف في عقولهم وتكبر معهم. فسؤال أمل مثلا عن أخته المولودة الجديدة قوبل باجابة سطحية "هذه دمية جديدة تلعب بها"، اجابة نتج عنها رغبته في تحطيم هذه اللعبة المزعجة (التي تقرصه وتتبول في حضنه)، رغبة سرعان ما نُفذت وكادت تودي بحياة الرضيعة. وسؤاله عن صورة ابناء جمال وحنان الموتى واجابتهما الساذجة بأنهم طيور الجنة أربكته وجعلته يكسر زجاج الاطار رغبة منه في تحرير هؤلاء الطيور. وأربكته حول مفهومه للسماء ونظرته لها وعلاقتها بالجنة والموت.

الثيمة الثانية التي طرحها الجبيلي هي الحرب، حيث يصف الكاتب وصفا واقعيا تقريريا بعيدا من البكائيات والتحسر على البلد والنفس، كيف واجهت البصرة المدينة الحدودية مع ايران ويلات الحروب التي عصفت بالبلد، حرب العراق مع ايران، غزو العراق للكويت، الغزو الأميركي للعراق وكيف عاش سكانها الحصار مقتاتين على النخالة ومستيقظين على ايقاع الصواريخ. وللحظة ومن خلال شخصية أملا الذي يتأقلم مع كل حرب من دون الرضوخ لرغبة أي واحدة من قريبتيه في الهجرة لاسرائيل أو لأرمينيا، للحظة يبدو وكأن العراقيين تعايشوا مع الحروب وتعاقبها عليهم لولا صيحة الفزع التي أطلقها أمل بعدما قالت عمته بعفويّة عندما بدأ الغزو الأميركي على العراق "إن شاء الله تمر هذه الحرب على خير"، ذُعر أمل مُتسائلا وهل يمكن للحرب أن تمر على خير؟ ليتساءل عن ماهيّة الحرب؟

كثيرة هي الاسئلة التي  تصاحب القارىء على امتداد صفحات رواية "أسد البصرة": من هو أمل؟ هل هو العراق أم ابنها؟ ومن هي حنان، هل هي أم الشهيد الأبديّة وهو الدور الثانوي الذي لعبته أيام الحرب العراقية-الايرانية حين كانت السلطة تشحن الناس عاطفيا للذهاب للحرب والاستبسال في الدفاع عن الوطن؟ ولماذا لم يتقبل أمل الطفل، ثم أمل الرجل، التفسير الشعبي لحكاية أسد بابل على أنها مجرد خرافة شعبية وهو المثقف والقارئ النهم للكتب الوجودية، أو لماذا لم يذهب لطبيب نفسي ويتخلص من تأثير هذه الحكاية عليه وعلى حياته؟ (في المخيال الشعبي الأسد ملك من ملوك بابل زنى بأخته فمسخه الله أسداً متحجراً والشخص الذي يرقد تحته تجسيد للأخت).

أمل هذا الابن الهجين، وليد ثلاث ديانات متضاربة ومتصارعة على قلبه وعقله في الظاهر هل هو رمز العراق؟ أمل الذي تحالف كل شيء ضده بداية بالموت الأسطوري لوالديه البيوليجيين-الحقيقين مرورا بالصراع الدائم بين العمة والخالة على حبه واهتمامه والحرب المستعرة بينهما لدمجه في قوميتها. ثم وصولا لأكثر عامل أثر في حياته وأربكها ودمّرها، علاقته أخته بالرضاعة نسرين التي مارست عليه ضغطا نفسيا منذ ولادتها في القسم الثاني وصولا الى اختفائها المربك في آخر صفحات الرواية. هل ما حدث حصل حقا؟ هل نسرين حقيقة أم وهم، وهل كان أمل أسداً في تلك الليلة المشؤومة التي تتهمه فيها باغتصابها؟ هل أمل بالنهاية نسخة لجيل كامل من الشباب، جيل تعرض للحرمان الجنسي والعاطفي والضغط النفسي الشديد في فترات الخدمة العسكرية التي يقتاد إليها الجميع طوعا أو قسرا أو يلاحق الفارون منها ويتم اعدامهم؟

لئن غذت أخيراً الحرب الاميركية على العراق وسقوط بغداد، القسم الثالث والأخير من الرواية، فإن القسم الاول جاء زاخراً بتفاصيل عن العادات اليومية لأرمن ويهود العراق. ووصف مبطن لحبهم للعراق ورغبتهم الوحيدة في مغادرته المبنية على الخوف من القتل من المتشددين. فرغم أن كلا المرأتين على امتداد الرواية عبرت عن رغبتها بالرحيل، لكن كلاً منهما واصلت حياتها العراقية في منتهى الانسجام بتفاصيلها اليومية. وواصل أمل الهروب من الأديان الثلاثة وجرب الهروب لكل شيء، الوجودية واللاأدرية وعالم البورنوغرافيا وفكر في الانتحار. وازداد ادمانه على صور الفاتنات العاريات والافلام الاباحية هرباً من رغبته الكبيرة في اخته بالرضاعة، وهرباً من فكرة سفاح القربى التي يجسدها أسد البصرة في الموروث الشعبي العراقي.

وقد ازداد التصعيد في الرواية بعد سنوات من اختفاء نسرين حين بدأ أمل في مراسلة ممثلة بورنو أميركية، وجد عنوانها في إحدى المجلات التي يدمن على اقتنائها. ولئن تبدو حكاية المراسلات وردها عليه ضرباً من الفانتازيا حيث تمتد هذه المراسلة بينهما على سنوات متقطعة بينهما خاصة مع الحصار، إلا أن أكثر ما يربك القارىء ويعطي القسم الثالث طابعاً سوريالياً تماهي الممثلة الاباحية "نيتا المُقنعة" مع نسرين في عقل أمل. لدرجة الشك في حقيقة وجود الممثلة وحقيقة هذه الرسائل. ونفكر فنتساءل من هي نسرين حقا؟ هل هي انعكاس لرغبات أمل الغير سوية وهو الذي هرب للاأدرية ومع ذلك لم يستطع التخلص من الفطرة التي زرعتها به أمه بالتبني حنان المسلمة بكون نسرين أخته التي لا يجب أن يفكر بها كأنثى.

ولئن كان أمل، هو العراق بفسيفسائه المتنوعة، بكل تمزقاته وتناقضاته بكل حنينه السبعيني لجيل السبعينات والسينما والحرية الفنية التي سرعان ما قُمعت وحولت لحروب متتالية وتعبئة عسكرية تأكل الأخضر واليابس. أمل ثابت، أمل صمد أمام اصابتين خطيرتين تعرض لهما... لماذا لم يذهب أمل الى بيت دعارة فيتوقف هذا الاحتقان العاطفي والجسدي؟ لماذا لم يفكر في الهجرة جدياً كما فعل الكثيرون؟ أمل ثابت يبدو متعايشا مع واقع الحروب المتتالية مخدرا بصور العاريات وبالكتب وبالمكان.

قادتنا اللغة المنسابة والسلسة للكاتب على امتداد الرواية في رحلة سريعة ومشوقة، وساهم في هذا اعتماده للجمل الفعلية القصيرة وابتعاده عن التشابيه الشعرية واللغة الفضفاضة. كثرة الافعال واستعماله للجمل القصيرة سهل تقبلنا للسرد المطنب لتفاصيل حياة أمل اليومية حيث كان من الممكن التخفيف منه في بعض المواضع كي لا يصاب القراء بالملل (مثلا صفحتان لوصف الانتفاخ والغازات التي عانى منها أمل).

عادة ما يهتم الروائيون بجملهم الافتتاحية، ويولونها قدرا كبيرا من الوقت وينتقونها بعناية. ومثلهم يهتم بها القراء فإما تجعلهم يطأون عتبة الرواية بلهفة أو بتردد... لكن الجملة الأخيرة في رواية أسد البصرة ربما تكون أجمل افتتاحية تشد القارئ، هي جملة البداية والنهاية، حين يرد أمل بغضب على عمته هيلا:
"أي أغوح على جهنم.. هذا أحسن من ما أغوح على إسرائيل"!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024