رحل عبدالوهاب الأسواني.. وانحسرت مساحة من الوَنَس

هشام أصلان

الجمعة 2019/01/04
كانت أيام قليلة مرت على 25 يناير 2011، عندما قال لي ذات جلسة ليلية بلهجته وصوته المميزين إن "مصر بعد المظاهرات دي مستحيل تبقى هي نفسها مصر قبلها". قالها وهو يبكي كعادته عند أقل درجة من التأثر بأي شيء. وكان فرحًا مثل عدد من أبناء جيله، اعتقدوا أن الحظ حالفهم بطول العمر كي يروا الحال وهو ينعدل، قبل أن تمر سنوات قليلة ونفوق على أن الأحوال "مالهاش عدلة".

عرفه الجميع كاتبًا يتحدثون عن أهميته التي لم تأخذ حقها كاملًا من الاحتفاء الأدبي، وإنسانًا يحمل نُبل ورقّة الدنيا، وقدرة على امتلاك قلبك في لحظات.

في اليوم التالي لعزاء الروائي خيري شلبي، أيقظتني مكالمة من العم عبدالوهاب الأسواني، وكانت المكالمة الثانية منه في فترة قصيرة. الأولى كانت ليستفسرعن حقيقة ما قاله خيرى، صديق عمره وزميله التاريخي في مجلة الإذاعة والتلفزيون، أثناء إعلان نتائج جوائز الدولة، عندما انفعل الأخير قائلاً إن: "الواحد مصاب بالعار لأنه عضو في لجنة يفوز فيها ناس متخلفين عقليًا". الجميع كان يعرف أن خيري شلبي لم يكن يقصد الأسواني، مع ذلك تأثر الرجل جدًا، لم يقتنع لأن صاحبه "لم يقلب استثناء عبدالوهاب الأسواني"، قالها بغضب وأغلق الهاتف. وعرف صاحب "الوتد" بما حدث، فهاتفني هو الآخر ليستفسر عما حدث ويوضح أنه كان يعني آخرين فازوا بالجائزة من دون حق. المكالمة الثانية من الأسواني كانت مختلفة، قال باقتضاب "يا ريته كان فضل عايش حتى لو شتمني كل يوم، هو مكنش شخص مؤذي، الله يرحمه"، وأغلق الهاتف باكيًا.

ترك عبد الوهاب الأسواني التعليم مُبكرًا، ما جعل البعض يشبهه بالعقاد، مشيرين إلى مسألة تثقيف الذات خارج التعليم التقليدي، وهو تشبيه لم أُحبه، ذلك أن منظومة التعليم في بلادنا لم تكن أبدًا على علاقة مُهمة بالثقافة. الجميع ثقّف نفسه ذاتيًا حتى مَن تميزوا أكاديميًا! هكذا انتقل الأسواني، مراهقًا، من أسوان إلى الإسكندرية، في عز ما كانت مدينة كوزموبوليتانية، للعمل في تجارة والده، لتضع سنواته هناك طبقة ثقافية فوق طبقته الفطرية الجنوبية. ونهل من هذا الخليط فأنتج أعمالًا مثل روايته الأخيرة "امبراطورية حمدان"، حكاية ذلك البائع الجوّال الآتي من الصعيد إلى الإسكندرية في أربعينيات القرن الماضي، ليصير أحد أباطرة المال والأعمال في المدينة الساحلية الأشهر.

وفضلًا عن البُعد الإنساني، غير الهيّن، في علاقته بالشارع الثقافي في مصر، يعني عبد الوهاب الأسواني عدداً مهماً من الروايات المعروفة، أبرزها: "سلمى الأسوانية"، "النمل الأبيض"، "كرم العنب"، "أخبار الدراويش"، "اللسان المر"، "ابتسامة غير مفهومة"، ومجموعات قصصية منها: "للقمر وجهان"، "مملكة المطارحات العائلية"، "شال من القطيفة الصفراء"، وعدد من الكتب الحكائية في تأريخ شخصيات شهيرة في التاريخ الإسلامي مثل: "خالد بن الوليد"، "أبو عبيدة الجراح"، "الحسين بن علي"، "عمرو بن العاص"، و"بلال مؤذن الرسول". غير أن التقارير الصحافية التي تناولت خبر الرحيل، غفل معظمها عن محطة مُهمة في حياته، وهي مشاركته الناقد والصحافي رجاء النقاش في تأسيس مجلة "الراية" القطرية، والتي كان قسمها الأدبي وقت نشأتها منبرًا مُهمًّا ومعونًا ماديًا معقولًا لكثير من الكُتاب المصريين والعرب.

رحل صاحب الـ85 عامًا، فنعاه الصغار قبل الكبار. كان من القليلين الباقين الذين نسجوا علاقة حنونة مع الجميع. واستطاع دائمًا أن يترك لديك حكاية تحكيها، نقلًا عنه، شاعرًا بأنها تخصك وحدك، وبينما تحكيها لأحدهم تكتشف أن لديه هو أيضاً حكاية تخصه من "عم عبد الوهاب".

وأنا، حيث بدأت علاقتي بالحياة الثقافية المصرية منذ كنت طفلًا، قابلت فيها قدر ما قابلت، لم أرَ من هو أكثر طيبة منه. وجه أسمر مريح وأناقة مُميزة، ومشاعر كأنها لطفل تأتي دموعه في ثانية بينما تأتي ضحكته في الثانية التي بعدها. وكأنه رسول حمل إلى العاصمة تلك الخصائص الإنسانية المعروفة واللافتة لأبناء مدينة أسوان في أقصى الجنوب المصري، كما حملت أعماله الأدبية ثقافات وتاريخ وأسئلة هذه البقعة الجغرافية ذات الطبيعة شديدة الخصوصية، والتي يتّسم أهلها برقّة متفردة بين مدن الصعيد. بالأمس، ومن دون مبالغة، رحل أجمل خلق الله، وانحسرت مساحة أخرى، كبيرة، من الونس.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024