"من صيدا لجونيه": تاريخ "سيارة مجنونة"

رشا الأطرش

الثلاثاء 2021/01/05
مع وفاة المخرج السوري حاتم علي، والموسيقي اللبناني الياس الرحباني، استعر موضوع الذاكرة الجماعية كحالةٍ جَدَلية، فاضت عن نطاق النوستالجيا، بين من أخذوا على عاتقهم الرثاء المرير، أو الاستعادة كفعل متعة، أو النقد بمفعول رجعي. 

بدا السوريون منقسمين بشدة إزاء علي، الذي، على الأرجح، شكّل عنواناً عريضاً لانقسامات شتى، من دون أن يحتكر عمقها ودوافعها الأصيلة النابضة من تحت طبقات المشاعر والانحيازات والجروح والتكتلات، بعد عشر سنوات من الثورة والاحتراب. أظهر بعضهم الحاجة إلى رمز بديل لما فقدوا من رموز، وربما أصنام ومَساند عاطفية و"وطنية". وتشبّث البعض الآخر بسكين التشريح الذي استُخدم، في أحيان كثيرة، بأكثر مما تحتمل هذه الجثامين: حاتم علي، الفن البصري السوري، وصولاً إلى رواية النظام عن تاريخ العرب!

أما اللبنانيون، فبدوا، إزاء رحيل الرحباني الأصغر، منغمسين في ماضٍ "جميل"، على اعتبار أن الماضي لا بد أن يكون كذلك، خصوصاً بالمقارنة مع هذا الحاضر فائض البؤس والتيه. وتخللت الغطسات في أرشيف الياس، المعروف والمجهّل، مناوشات مكررة عن الإرث الرحباني، وتمايز آخر العنقود عن "الأخوين" من عدمه، و"سرقة الألحان"، الخ..

بيد أن هذا اللغط كله يستحق زاوية رؤية إضافية: تلك البحيرة من الذكريات والمعرفة المشتركة لجماعة ما، والمرتبطة بهويتها، أو الأصح، التي تربطها هي بهويتها وتنحتُ بها تصوّرها عنها. الذاكرة الجماعية. الإطار اجتماعي وثقافي وسياسي للذاكرة التي يفترض أن طبيعتها تتسم بالذاتية، بالوعي الاستعادي لكل شخص على وقع نغمات بعينها، صُور وأحداث، أكثر من كونها حزمة لمجتمع أو جيل. مفارقة مدهشة هي تلك الذاكرة، تناقض "أنا" و"نحن" مُغرٍ بفرز تراكيب كثيرة ومعقّدة، ربما يكون التاريخ أكثرها غواية.

فالتاريخ العربي و"الأموي-السوري"، بأبطاله وملاحمه، حضر بقوة في النقاش المحتدم بشأن "مهنية" حاتم علي كمخرج تلفزيوني (أو عاديّته، عبقريته، تواؤمه مع سوق الانتاج وقيمه، معارضته للنظام أو موالاته أو مسايرته). وكذلك التاريخ اللبناني، برموزه وأيقوناته، تهويماته وبِدَعه، كثيراً ما نُبش عبر السيرة الرحبانية، وشكّلت وفاة الياس هذه المرة منطلقاً طازجاً له.

وإذا كانت الذاكرة الجماعية قد دُرست وتم تدولها كجسم معرفي مكثّف في صور وسرديات مكرّسة، وقيم وأفكار، ذات منظور أحادي في الغالب، لثلّة من الناس يسمون أنفسهم بإسمٍ جامع (لطائفة، طبقة، منطقة، وطن..)، فإن التاريخ يُقدَّم على أنه الحكاية الأكثر اكتمالاً واستدارة، وأنه متعدد المصادر والوثائق، أشمل وأكثر توسعاً في منابع "الحقائق"، مناظيره متنوعة، وقوامه الحفر.

لكن.. فعلاً؟ سؤال يكتسب مشروعية متزايدة، باتت تطرحه مرجعيات بحثية وأكاديمية من خارج المتن، محاولةً إعادة الاعتبار للتأريخ "الشعبي"، المعتمد على التجربة والمرويات والشفاهة والذاكرة، مستعينةً بأدبيات متمردين على الاستابلشمنت الثقافية، من قبيل والتر بنجامين الذي أعلى من شأن "التجربة" كواحد من أوعية "المعرفة".

وبين منزلتي "الذاكرة الجماعية" و"التاريخ"، وفي لحظة رحيل الفنانَين، يبدو الزمنان اللبناني والسوري مجالَين لتأريخ يتم في حينه، في هذا الأوان، لا أوانه المنصرم، في كل أمكنة الداخل والخارج، لا في أطلال مواقعه.

هل كانت "التغريبة الفلسطينية"، من إخراج حاتم علي، تصوراً مشتركاً بين السوريين والفلسطينيين، والفلسطينيين-السوريين؟ هل أحال "ملوك الطوائف" الأفكار كلها إلى الشخصيات والأحداث المُقابِلة نفسها؟ بل هل كان مطلوباً منهم فعل ذلك؟ هل يُستعاد "ربيع قرطبة" بأنفاس "الربيع العربي"؟ وكيف وفي أي مصبّ تسلية صبّ لدى السوريين في وقت عرضه، أيام ظاهرة الفضائيات، بعد الشاشة السورية الواحدة الموحدة، وقبل انفجار الانترنت ومنصاته؟ وماذا عن العرب؟ لا يمارس كل السوريين فعل التذكر بحسرة "كنا سعداء" و"أكثر طمأنينة وبحبوحة" و"كان فناً جميلاً"، لكن تلك قوالب وعي موجود، وليس بالقليل. وثمة أيضاً من يقول إن هذه ليست ذاكرته المشتركة مع مواطنيه، بل بوط المدرسة العسكري، وكوابيس الخدمة العسكرية القسرية، بل ونشيد "البعث" من تلحين الياس الرحباني، الذي يستذكره سوريون ككابوس قديم ويمتدحه اليوم لبنانيون كأنشودة حماسية لطيفة!


والطريق "من صيدا لجونيه"، في الأغنية التي وضعها الياس الرحباني لصباح، هل كانت آنذاك باتجاهين أم باتجاه طائفي ومناطقي واحد؟ يكاد واحدنا يجزم بأنها عنَت، في زمنها في الثمانينات، أشياء جدّ مختلفة، لأهل صيدا، ولأهل جونيه، بل حتى للمهجّرين من شرق صيدا، ولأهل بيروت الغربية الذين ربما زاروا صيدا، لكنهم لا يعرفون جونيه إلا من شاشات التلفزة "المسيحية" وحكايات العابرين على خط المتحف، عن مدينة متلألئة بالكهرباء والسهر والتسوق النظيف و"السيارة المجنونة". وأغاني الياس للأطفال، هل كانت الموسيقى التصويرية للطفولة اللبنانية جمعاء؟ هل كان "الواوي" نفسه الذي "طلع عليه الضو"، للفرانكوفون الذين عرفوا الأغنية بالفرنسية، وأطفال مدارس متهالكة في الأطراف، بل والأطفال السوريين اللاجئين الذين أعادوا تسجيلها العام الماضي؟ وهل نسعى جميعاً لنبشها لأولادنا اليوم في "يوتيوب" لأنها من القليل الذي باستطاعتنا أن نورثهم إياه من "ذاكرتنا"؟... كأننا، كلنا، نبحث عن صخرة ما نستند إليها في طوفاننا الراهن. وإن لم نجدها، صنعناها، بأظافر الذاكرة إياها، علّنا نحظى بنقطة مرجعية ما تنظمنا في خضم الفوضى، ننتمي إليها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024