آمال جنبلاط زوجة سعيد عقل تنبأت بموتها القَدَريّ شعراً

محمود الزيباوي

السبت 2018/06/02
وحيداً عشْ وحيداً ستموت ولن يحضر احتضارك أحد

في 2 نيسان/أبريل 1982 عقد الشاعر سعيد عقل، قرانه على آمال جنبلاط، ووصفت الصحافة هذا الحدث بـ"زواج الحب والوحدة الوطنية". بعد مرور خمسين يوماً، في 23 أيار/مايو، أطلقت العروس في صدرها رصاصة، وقالت بعض الصحف نقلاً عن مصادر قضائية مسؤولة "إن الظواهر والدلائل كلها تشير الى أن الفقيدة قد اختارت طريق الانتحار لوضع حد لحياتها".

كان الشاعر في السبعين من عمره يوم أقدم على الزواج، وكانت عروسه في الثالثة والثلاثين، ولم تكن غريبة عن عالم الشعر والأدب. في العشرين من عمرها، أصدرت آمال جنبلاط ديواناً شعرياً بالفرنسية بعنوان "أغنية ليلية"، ونشر "ملحق النهار" في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1969 مراجعة نقدية لهذه الباكورة لم تحمل توقيعاً، غير أن أسلوبها يشير إلى قلم أنسي الحاج المميّز بلغته ومفرداته كما يبدو.

كتب الشاعر في قراءته النقدية: "شعر واضح صادق، يهرب من التعقيد ولا علاقة له بالتراكيب الحديثة، لولا أنه من ناحية الشكل، يعتمد البيت الحر، مع الاحتفاظ بالقافية. يخيّم على هذا الشعر حزن كاسر، وتمتلئ قصائد الكتاب، إلى حد الهاجس، بألفاظ الموت وحاشيته. كأنّما هذه الصبية لا تعيش إلا في مواجهة الموت، ونكاد نقول في حماه. لماذا؟ لأنها (هكذا تقول) تعرف انها لن تعيش. لماذا؟ لأنها (هكذا تقول) لا تعرف، وليس هناك سبب واحد يبرهن لها انها لن تموت".

نقل "الملحق" إلى العربية قصيدتين من قصائد باكورة آمال جنبلاط، أولاها قصيدة بعنوان "وحدك"، وفيها: "أفقك يلبس الحداد/ منذ زمن طويل/ وظلّك على العتبة/ لم يعد ينتظر وقع الأقدام/ ما همّك إذا اضطررت وحدك/ أن تسمع النعيّ الحزين؟/ وحيداً عش وحيداً ستموت/ ولن يحضر احتضارك أحد". أما القصيدة الثانية، فعنوانها "ماذا أقول؟"، وفيها: "ماذا أقول عندما/ ضباب عيني/ سيحجب النور؟/ ماذا أقول عندما الموت/ يثقل جفني؟/ ماذا أقول عندما يهبط المساء؟/ لقد غنيت الحقول والجداول/ وها أخرج من الحياة/ لا ذليلة ولا فخورة/ ولكني فقط أخفض رأسي/ وأرجع حيث أتيت".


نوّه أنسي الحاج بهذه الشاعرة الشابة، واعتبر انها تملك، "في سبيل مستقبل شعري أفضل، إحساسا سريع الالتقاط، ورغبة عميقة في التغيّر، بل إرادة قادرة على التغيّر، وعلى التغيّر باتجاه المناخ الذي تستكمل فيه شخصيتها أكثر فأكثر، وتستوفي عناصر دورها الشعري أكثر فأكثر". ورأى الناقد أن في بذور هذه المجموعة الشعرية الأولى، كما في استعداد صاحبتها، "ما يجعلنا نرجو أن تكون هذه الإطلالة وقوفاً عند عتبة الباب الكبير، الباب الذي ينفتح، إذا دقّت عليه يد ماهرة، على شعر الصباح". لم تدقّ يد الشاعرة على هذا الباب كما يبدو. بعد غياب دام زهاء خمس سنوات، أصدرت آمال جنبلاط في 1974 مجموعة ثانية بالفرنسية حملت عنوان "الغياب"، وضمّ هذا الديوان عدداً من القصائد توزعّت على خمسين صفحة، شكّلت استمرارية للمجموعة الأولى.

بعدها، غابت آمال جنبلاط عن عالم الشعر، وعادت إلى الظهور إعلامياً في ربيع 1982، يوم تزوّجت كنسياً من سعيد عقل، وكتب الشاعر في هذه المناسبة قصيدة باللغة المحكية غنّتها الجوقة أثناء العرس، تقول كلماتها: "مع شمسك اللي عالدني تشرق/ ربّي تشاركهم/ وبإيدك اللي بالعقل تبرق/ ربّي تباركهم/ سعيد وآمال/ طالع بهالجلد عرسن شميلة جمال/ لعرشك اللي من ذهب الأبد/ المجد والشعر التقوا باتنين/ جبينن متل غصن الأرز عالي/ شعبهم كبير فيهم، شهقلن/ وين راح يوصل بعد موّالي/ ربّي يا هالغالي بعينيك حطّن/ غمّض العينين/ مع شمسك اللي عالدني تشرق/ ربّي تشاركهم/ وبإيدك اللي بالعقل تبرق/ ربّي تباركهم".

رافقت الصحافة هذا الزواج المفاجئ، وأجرت ديانا هندي حديثاً مع الشاعر وزوجته نُشر في مجلة "الشبكة" في 26 نيسان/أبريل. قال سعيد عقل إنه التقى بآمال جنبلاط منذ 12 سنة فأحبّها، وتزوّجها بعد طول انتظار، ووصف هذا الزواج بالأعجوبة، وأضاف: "كنت أستكبر جداً أن ترضى بي زوجاً، هي الصبية الموهوبة، ابنة العائلة العريقة. كنت أحبّها وأتهيّب طلبها للزواج لفارق السن بيني وبينها، لكن اليوم بعد أن كبرت ونضجت، تجرّأت وفعلت وحققت حلمي بالزواج منها". وردّت آمال جنبلاط وقالت: "إنها غلطتي، وأنا نادمة. قبل 12 سنة لم أكن أملك النضج الكافي لأتزوج من رجل كسعيد عقل. انه هرم، والمحافظة على هذا الهرم مسؤولية كبيرة. اليوم ملكت النضج الحقيقي، فتحمّلت هذه المسؤولية بإصرار ووعي. زواجنا حمامة سلام وليس تحدّياً، لقد انتصرنا انتصاراً عظيماً، وذللنا كل الصعوبات. انسوا فارق السن بيننا، وتذكّروا المجد، تذكّروا القيم، فزواجنا ليس زواجاً تقليدياً. زواجنا زواج عقل، لأنني أحبّ بعقل سعيد عقل وأحبّ فيه فكره وقيمه ومبادئه. زواجنا ليس زواجاً عادياً، والبعض أسماه زواج الوفاق الوطني. لأنه جمع بين جميع الطوائف في لبنان. فإشبينتي كلود أبو ناضر مارونية، وإشبين سعيد عقل الرئيس عادل عسيران شيعي، واللواء عزيز الأحدب الذي كان سيدخلني إلى الكنيسة لو لم تلمّ به وعكة صحية سنّي، وأنا درزية. صحيح إني دخلت الكنيسة، وأخذت المراسم المسيحية التي أحترمها، لكنني خرجت منها درزية".

واصلت ديانا هندي الحديث، وسألت الشاعر السبعيني إن كان سينجب أطفالا، فهتف: "إن شاء الله. لقد أثبت الطب علمياً أن الرجل يظل ينجب ولو ناهز الثمانين. إن رزقت بنتا سأسمّيها أدال على اسم أمي، أو آمال على اسم حبيبتي. وإن رزقت صبياً سأسمّيه شبل لأنه ابن الأسد، وإن كان له ابتسامة أمه سأعبده". وقالت العروس في وصف عريسها: "إنه أسد في داخله، له هيبة ووقار، لقد تحدّى الطب وقوانين الطبيعة، إذ وصل إلى السبعين وظلّ منتصب القامة. ألا يبدو في الخمسين؟ على المنبر هو ابن ثلاثين بدون شكّ، وفي الحبّ ابن 17 سنة. انه يختصر العمر".

وعن زواجه المتأخر، قال سعيد عقل: "كانت لي علاقات تصوّرتها في لحظات الحبّ الحلو، لكنني في قرارة نفسي، كنت أتوق إلى حبّ حقيقي يدخل التاريخ كحبّ روميو وجولييت، قيس وليلى، وبول وفيرجيني. أتوق إلى حبّ يملأ الكون، ومع آمال التقيته، وعشته، وأعيشه. إنها وحدها التي ملكت قلبي بهذه القوة، وبدونها لن أكون، ولن يكون الشعر. عندما قررت أن أتزوج آمال، وعندما قبلت بي زوجاً لها، ولدت من جديد. عطائي إلى جانبها سيكون زاخراً. في الكنيسة، عندما قال الكاهن: لن يفرّقكما إلا الموت، قلت: ولا حتى الموت".

اندفع الشاعر في هذا الحديث عن الحبّ، وأضاف: "الحبّ يخلص الأوطان، أميركا مثلاً مريضة، لأن أربعين مليوناً من شعبها يعيشون في ضياع، على هامش الحياة. وحده الحبّ الكبير ينتشلهم، وحده الحبّ يخلّصهم، بعد أن عجز العقل الأميركي عن إيجاد حلّ جذري لهم. أنا أتمنى أن أسهم يوماً في نهضة أميركا، كما أسهم قبلي جبران خليل جبران. أنا وعروسي سنصنع أجمل وطن في الدنيا". فعلّقت آمال وقالت: "أنا وسعيد سنعمل من أجل لبنان، وبكل تواضع أقول إننا معا سنوقّع على معاهدة تنص: أنت خذ درزية، وأنا آخذ مارونيا، أو العكس. لنحقق التوازن الطائفي. سنفتح في الغد بإذن الله باباً لإلغاء الطائفية، لقمع الخلافات التي تديرها الأيدي الغريبة في الخارج. لبنان محتلّ. ولا أعني بالاحتلال هنا احتلال الأرض اللبنانية، بل الفكر اللبناني. فاللبناني لم يعد يؤمن بنفسه، ولا بوطن يستحقّ أن يموت من أجله. حالة لبنان بشعة، ووحدها الفتوحات الفكرية تخلّصه. ما لنا وللغرباء وليس لنا بينهم أعداء. المطلوب من اللبناني أن ينتصر على نفسه، وأن يدرك أن وطنه أحلى وطن في الدنيا فإن خسره خسر كل شيء، لأنه لا يملك وطناً سواه".

في الختام، قال صاحب "لبنان إن حكى": "غداً كما قلت سأصنع أنا وعروسي أحلى وطن في الدنيا. سنحبّ بعضنا أكثر فأكثر، وبدونها لن أكون. زواجي هذا سأحوّله يوماً إلى حدث تاريخي في الحبّ. آمال إلهتي، وأنا سعيد جداً، في أسعد أيام حياتي". وقالت صاحبة "أغنية ليلية": "سعادتي في سعادة هذا الإنسان الكبير. زواجي من سعيد عقل أبدي، ولن ينتهي إلاّ بانتهائي".

بالفعل، انتهى هذا الزواج بانتهاء الزوجة. أطلقت آمال جنبلاط من مسدس عيار 38 ملم على صدرها رصاصة مزّقت قلبها في غياب زوجها الذي كان في زيارة أحد أصدقائه، ونُقلت جثتها إلى مستشفى "أوتيل ديو" حيث تمّ تشريحها، وأبقيت هناك في انتظار تحديد مراسم التشييع. واكتفى يومها الزوج بالقول: "أنا مجروح وحزين. قولوا إن سعيد عقل اليوم في أشد حالاته حزناً وانكساراً. إنه اليوم مجروح وحزين. وقد فوجئت بالحادث، وكنت غائباً عن المنزل". بعدها، نُقل جثمان آمال جنبلاط من بيروت الشرقية إلى بيروت الغربية في زمن انقسام العاصمة، ثمّ نُقل من بيروت الغربية إلى بلدتها بعقلين حيث جرى تسليمه إلى ذويها.

حدث ذلك في نهاية أيار/مايو 1982. بعد بضعة أيام، في 6 حزيران/يونيو، احتلت إسرائيل جنوب لبنان، ثمّ حاصرت بيروت، ومع هذا الغزو، دخلت قصة زواج سعيد عقل من آمال جنبلاط سريعاً في النسيان، وحين رحل الشاعر الكبير عن هذه الدنيا في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2014، لم يأتِ أحد على ذكرها. وحده الفنان التشكيلي عارف الريس استعاد بعضاً من قصائد الصبية آمال جنبلاط، وزيّنها برسومه في كتاب فني من تصميمه أنجزه في صيف 2003.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024