سخرية عادل عابدين: الإسلامي كبالونٍ حَليق

روجيه عوطة

الأربعاء 2019/01/30
مع أن الفن البصري والتجهيزي لعادل عابدين (بغداد، 1973)، الذي تستقبله "غاليري تانيت" حالياً بمعرضه المعنون "يا"، لا يمكن اختزاله في سمة أو موضوعة واحدة، إلا أنه غالباً ما يجري الحديث عن دورانه حول سخريته. صار المتابع لعابدين ينتظر منه اسكتشاً مضحكاً بالمعنى التلفزيوني للعبارة، لكي يعلن أنه لا حيلة له. كما لو أن الفنان يطرح سخريته كتتويج لعمله، كخلاصة تصل إلى المشاهد مباشرة من دون توسعة، لأنها ببساطة تمحوها. لكن عابدين، على الدوام، يخيب ظن المتابع له على أساس انه ليس سوى فنان السخرية، فلا يوفر له الاستكش المتوقع، ثم أن سخريته، وعندما تُضحك، تبدو فاتحة أكثر منها خاتمة.

فهذه السخرية هي ليست المعنى الأخير لأي عمل من أعمال عابدين، إنما هي طريقة لنسج الروابط التي تشيده. ربما المثال الذي يتبادر إلى الذاكرة موضحاً وضع السخرية هذه، هو ذلك العمل لعابدين بعنوان "رغوة"، والذي يسأل عبره "كيف من يمكن تمثيل الأصولي الإسلامي؟". يصور مجموعة من الأطفال يمرغون صابون حلاقة على بالونات، محاولين حلقها بالشفرة. طبعاً، وكلما حاول طفل ذلك، فقع البالون بين يديه. السخرية في هذا العمل، الذي جرى إنتاجه في العام 2007، هي في الجمع بين البالون والشفرة، وفي "تفجّر" البالون، وتكرار المحاولة، وليس في تشبيه البالون مع الصابون بالأصولي الإسلامي ملتحياً، وليس في أن كل محاولة تبوء بالفشل. 


السخرية هنا بمثابة مطلع الإشارة إلى أن الكليشيه الذي يدور حول شكل الأصولي الإسلامي، كما أنها مطلع للإشارة إلى أن اي معالجة للأصولية الدينية لا تتعدى هذا الكليشيه ولا تتعدى التعليق على الشكل، لا تفضي إلى أي شيء سوى حلاقة الهواء. على هذا النحو، تكمن السخرية في الربط بين عناصر بعينها، وليس في كون ما تشيده هذه العناصر المرتبطة حاملاً على الاعتقاد بلا جدواه. أي أن العمل وُلد مهزوماً أمام موضوعه. في هذا السياق، من الممكن القول أن سخرية عابدين لا تمت بصلة إلى تلك السخرية التي تروج حالياً في الأعمال الفنية، والتي، فعليا، لا تدل سوى على أن هذه الأعمال لا حيلة لها اتجاه ما تسعى إلى النظر فيه. فتطرح مواضيعها بالخضوع المسبق إلى كل تصور طاغٍ عنها، وبذلك تكون سخريتها تزييناً لهذا الخضوع، واحتفاء به بالركون إلى كوميديا النكران وتذاكيه.
 

في هذه الجهة، عندما تثير أعمال عابدين الضحك، فهي لا تفعل ذلك بالانطلاق من السخرية بما هي علامة على الامتثال، ولا بالانطلاق من كونها أعمالاً "اسكتشية"، بل بالاستناد الى تشكيل مواضيعها. فتجهيز "أنا آسف" (2007)، الذي أنتجه الفنان ليخبر عن تلقيه -كعراقي- هذه العبارة على لسان كل شخص التقاه في الولايات المتحدة، هو تجهيز مضحك، لا لأنه يجعل من تلك العبارة اسماً لبلد بأكمله، بل لأنه يحيط هذا الاسم بإضاءة تحوله إلى ما يشبه لافتة موتيل في طريق سريع. الضحك هنا هو أثر يولده الشكل، تماماً كما في تجهيز "أرشيف"(2018)، حيث لون الملفات وتوضيبها مدعاة للضحك.

بسبب سخريتها واضحاكها على هذا النحو، تستطيع أعمال عابدين على أن تكون ساخرة ومأسوية في الوقت نفسه. وهذا ليس بطريقة مبتذلة، عبر إلحاق الموقف الساخر بالموقف المأسوي على سبيل المثال، لكن عبر إيضاح الأول للثاني من دون ان يطغى عليه أو يفقد توازنه معه. ففيديو "تطهير" (2018)، الذي يدور حول غسل الناس بالماء من أفكار السياسة المفروضة عليهم، هو، في ناحية من نواحيه، ينطوي على سخرية. غير أن هذه السخرية تبيّن الأجساد في مأسويتها. وبذلك، من الممكن القول أن عادل عابدين يبدد في اعماله سوء التفاهم بين السخرية والمأساة، الذي جرى إكراهه عليهما بفعل تضمنيهما سوية كيفما اتفق، معيداً التوازن إلى الجمع بينهما. فـ"يا" للسخرية من السخرية السائدة! 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024