الحالة العجيبة للمدعو أمبرتو إيكو!

أسامة فاروق

الأحد 2020/07/26
"وما اسم حضرتك؟"
"انتظر لو سمحت، إسمي على طرف لساني". 
هكذا بدأ كل شيء. 
"زي ما تكون الحياة ذكرى" يقول فؤاد حداد. والذكرى هي كل ما تبقى لـجامباتيستا بودوني أو يامبو بطل رواية أمبرتو إيكو "الشعلة الخفية للملكة لوانا(*)، ومنها يعيد بناء حياته من جديد. يفقد يامبو ذاكرته في حادث أو وربما اثنين، لا شيء مؤكداً غير الشك، لكنه لازال حاضرا طالما لازال قادراً على التذكر. 

أسقطت ذاكرة يامبو كل شيء؛ إسمه وزوجته وأولاده وأحفاده وأصدقاءه، لكنها احتفظت بالسطور التي قرأها والصور التي شاهدها "كنت أعلم كل شيء عن الإسكندر الأكبر ولا أعرف شيئا عن ألساندرو حفيدي الصغير"، يمتلك ذاكرة موسوعية لكنها "ذاكرة من ورق"،  لكنه أيضا لم يكن مجرد قارئ عادي، فهو خبير الكتب النادرة، حفيد تاجر الكتب الذي شهد هو وعائلته أبرز الفترات في التاريخ الإيطالي كله. إطلع طفلا على أشهر ما كان يقدم للأطفال في الأربعينيات، سواء منتجات محلية أو مستوردة، ثم أكمل شغفه بالاطلاع على أبرز الانتاجات العالمية في الأدب والسينما والموسيقى بالطبع. بقدرة فريدة على التسجيل والحفظ والاستعادة أصبح يامبو موسوعة متنقلة تحتاج فقط لإعادة ضبط.

الممتع هنا، أن ذاكرته تحاول استعادة أحداث الماضي في مكان حدوثها، لكن عملية التفسير تقوم بها شخصيته الحالية بوعيها المتراكم، فكأنما ولد مجدداً بالخبرة الحياتية التي أصبح عليها في الستين، لا من لحظة الولادة. تحيل أيضاً لقصة الروائي فرنسيس فيتزجيرالد "الحالة العجيبة لبنجامين بوتن"، التي يولد بطلها عجوزاً، مضافاً إليها الوعي هذه المرة.

قتل ميكي ماوس
لا يتخلى إيكو عن الألعاب التي يفضلها، والأحجيات التي يتفنن في رسمها، فعبر حادثتين/ ولادتين نشاهد حيرة يامبو في ربط ذكرياته لإستعادة ما سقط منه، في الحادث الأول/الولادة الأولى يستجيب لنصيحة زوجته ويعود إلى بيت عائلته القديم في سولارا، فربما ساعده ذلك على ترميم ثقوب ذاكرته، وهناك في علية البيت الكبير يرسم إيكو متاهته التي يغرق فيها بطله، وفي قبو ومصلى بمثابة رحم أول، نشاهد تفاصيل الولادة الأولى وفيها يتعرف يامبو على أطعمته وروائح بيته وشكل والديه وعائلته ومناطق دبت فيها قدمه للمرة الأولى، ثم أول قراءاته وبالطبع حبه الأول، ومع كل تجربة جديدة كانت تداهمه تلك الشعلة الخفية التي تنير بعضاً من ظلام الماضي. لكن حتى تلك اللحظات الطفولية لم تخلُ من حضور سياسي، فالحرب العالمية لم تغب حتى عن قصص الأطفال، حيث تلاشت الشخصيات الأميركية تماماً، وجرى استبدالها بشخصيات إيطالية منسوخة، عملية أسماها إيكو "قتل ميكي ماوس" فبين عشية وضحاها، ومن دون إنذار مسبق، كانت مغامرات ميكي ماوس مستمرة في الصدور كما لو أن شيئا لم يكن، لكن بتحوير بسيط حيث أسندت البطولة إلى "توفولينو" وهو شخصية بشرية لا حيوانية، وإن ظلت أسماء أصدقائه على حالها: بيبو وميما بدلا من ميني "كيف تلقيت إنهدام ذلك العالم عندئذ؟" يسأل يامبو/إيكو نفسه ويجيب: "بهدوء تام ربما، طالما أن الأميركيين أصبحوا أشراراً في لحظة واحدة". ولكنه، يعود ليسأل "هل كنت أعي آنذاك أن الفأر الصغير أميركي؟"، هنا تطل الخبرة الحالية لتنير المشهد القديم وتفسره، ويختتم بتأكيد على تأثره بالقصص أكثر من الواقع الفعلي "لا بد أنني عشت ما يشبه الحمام الاسكتلندي بتلك الصدمة المباغتة، وبينما كنت أتأثر من الصدمات في القصص التي أقرأها، كنت أستخف بصدمات التاريخ الذى أعيشه".


تحليل الخطاب الفاشي
في الولادة الثانية نشاهده، ويشاهد معنا يامبو نفسه، في طور الشباب الأول متورطا في مغامرات الحرب، وغارقا في متاهات الحب، والأهم مفكراً في الأيديولوجيا والدين. وكما في الولادة الأولى يستمتع بتطبيق خبرة الحياة الحالية على تركيب ذاكرة الماضي، فعندما يتصفح صحف الأربعينات بعد كتبه الدراسية وبعض المنشورات والقصاصات مثلا نجده يقول "تساءلت ما جدوى ذلك، طالما أن الكتب من إنتاج النظام، فستكون الصحف من إنتاج النظام لا محالة" بالطبع لم تكن لديه الرؤية نفسها وقت القراءة الفعلية لتلك الصحف عندما كان طفلاً، لكن الآن هناك بعدٌ جديدٌ يمكن من خلاله إعادة رسم صورة أكثر وضوحاً للماضي، وإضافة صفحات معدلة للموسوعة.

كل هذا مغلف بغلالة من الضباب المحيط بكل شيء، الذي يؤكد الشك ويعمقه، حيث يسرّب إيكو الشك في الروايات كلها والرؤى المختلفة التي تكونت عبر مئات الصفحات، يهدف هذا كله لنغرق مجددا في الضباب والشك، هل أفاق من غيبوبته الأولى ليغرق فيها مجددا بحادثٍ ثانٍ؟ هل أفاق من الغيبوبة الأولى من الأساس؟ هل هو حي أم ميت تحوم روحه حول ملاعبها القديمة فـ"الذاكرة هي الروح" كما يقول؟ والأهم هل يامبو هو إيكو نفسه (صورة يامبو طفلا الموجودة في الرواية هي صورة إيكو)؟ وهل الرواية تسجيل لسيرته الذاتية؟ هنا ربما نكتشف الوجه الحقيقي للحكاية، فإذا نزعنا القشرة الخارجية التي تربط أجزاء الحكاية إتضح الغرض الأساسي منها، إذ نصبح أمام موسوعة حقيقية لإيطاليا الأربعينات، من مجلات الأطفال حتى أدق الأحداث السياسية وقت سيطرة الفاشية، مرورا بالإصدارات السينمائية والموسيقية والكتب والمنشورات والنشرات الإذاعية.. إلخ تعطي فرصة عظيمة لتحليل الخطاب الفاشي عبر تعامل مباشر مع أفكاره ومنتجاته، حيث أصر إيكو على وضع صور لمنتجات تلك الفترة وكان أحد شروطه للموافقة على منح حقوق طبع الرواية، ما يوفر بالتأكيد رؤية أوضح وفهم أوسع لتلك الفترة المهمة في تاريخ إيطاليا والعالم.

انفجار الموسوعة 
لا يمكن بأي حال الإلمام بكل ما تطرحه الرواية مرة واحدة مهما كانت درجة الثقافة والاطلاع، وهو ما أشار إليه مترجم الرواية معاوية عبد المجيد في مقدمته حيث يقول "إذا كان إحتراق المكتبة هو الثيمة الأساسية لرواية اسم الوردة، فإن رواية الشعلة الخفية للملكة لوانا تدور حول انفجار الموسوعة وتبعاته في زمن ما بعد الحداثة".
الغريب أن مؤلف تلك الموسوعة كان يريد أن يثبت بها أنه يستطيع كتابة الروايات السهلة البسيطة بعد رواياته المليئة بالألغاز والتعقيدات! والأغرب هو عدم إقبال القراء على تلك الرواية وقت صدورها في إيطاليا لأول مرة 2005، فلماذا يقبل القراء على روايات إيكو الغارقة في التعقيد والتي تدور في أزمنة سحيقة، ويبتعدون عن الرواية السهلة التي تدور في أزمنة حديثه إلى حد ما؟!

في تفسيره لهذا الأمر قال مترجم الكتاب في لقاء عبر الإنترنت نظمته مكتبة "تنمية"، ناشرة النسخة المصرية من "الشعلة الخفية" وأداره الصحافي المصري سيد محمود إن لعنة "اسم الوردة" أثرت بشكل كبير على ترويج كل روايات إيكو، فدائما ما يشار إليها عند تقديم أي عمل جديد فتنزع الاهتمام وحدها ويؤثر حضورها الكبير على تقديم العمل الجديد، التبسيط لم يكن في مصلحة الرواية أيضاً، فجمهور إيكو تعود على كتابته وربما لم يتقبل منه غير الروايات المعقدة التي اعتادها وهو ما انتبه إليه المؤلف فعاد إلى نهجه القديم في "مقبرة براغ"، الرواية التي تلتها مباشرة. 

ورغم ذلك، يقول معاوية إن الرواية وإن كانت بسيطة على مستوى الحكي، فهي معقدة جداً على مستوى التفاصيل والمعلومات والزمن الذى تدور فيه "تعتبر من أصعب الروايات لأنها مرتبطة بتاريخ مؤلفها الشخصي؛ كتبه وأغانيه المندثرة أصلا وكان لابد من البحث عن هذا كله وفهمه قبل الترجمة" كما أن إيكو استثمر فيها شغفه كسيميائي، ووضع فيها الكثير من الرموز منها اسم البطل نفسه وهو اسم حقيقي لشخص إبتكر خطاً معيناً لازال يستخدم حتى الآن، كذلك ميلاد البطل في أعياد الميلاد كإشارة للحمولات الدينية، التي ستحملها الرواية بعد ذلك. أكد معاوية إنه استغرق نحو عامين في ترجمتها، تعامل معها كـ"مرض مزمن" وأمضى سنوات الترجمة بين قراءة وإعادة قراءة مراراً وتكراراً، والاطلاع على قدر هائل من المصادر والمراجع التي اختزنها إيكو بين دفتي الرواية "وقد عجزت عن ترجمتها دفعة واحدة لأنها كانت تصيبني بتخمة معرفية في كل صفحة من صفحاتها".
 

(*) "الشعلة الخفية للملكة لوانا" للفيلسوف والسيميائي والناقد والروائي أمبرتو إيكو. ترجمها معاوية عبد المجيد وصدرت مؤخرا بالتعاون بين دار الكتاب الجديد ومكتبة تنمية في مصر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024