بليغ حمدي.. النغم خارج مدارات الجذب

شريف الشافعي

الأحد 2019/08/25
في حقل التذوق الفني، بما يعنيه من فطرة إنسانية سوية قبل المعرفة المنهجية والتحصيل العلمي والتعاطي الأكاديمي، ليس هناك ما هو أسوأ ولا أفسد من اتخاذ التعميم مطيّة إزاء ظواهر استثنائية تستمد وجودها وحضورها الفذ أصلًا من فردانيتها وتزحلقها فوق الثوابت وخلخلتها السائد المستقر ونسجها على غير منوال مألوف، سواء في طرحها الجديد الطازج، أو حتى في تفاعلها مع الموروث وفق معادلات تفجيرية تجهلها الكيمياء التقليدية.

لطالما عانت تجربة الموسيقار بليغ حمدي من الأقوال المقننة والمقاربات المستهلكة، التي يكفي أن تستند إلى فكرة "المجايلة" (الخصائص المشتركة لرفقاء الجيل) وما إلى تلك القياسات والتصنيفات الشائعة، ليكون ذلك الاستناد دليلًا على خوائها وانحرافها خارج الأفق اللامحدود محل القراءة. ولعل المسرحية الذي تُعرض حول مسيرته الفنية والحياتية في القاهرة بعنوان "سيرة حب" لمؤلفها أيمن الحكيم ومخرجها عادل عبده لم تبتعد كذلك في معالجتها عن ذلك التنميط الدارج في الدراسات التحليلية لموسيقى بليغ حمدي وموقعها الفني والنسقي، ذلك الموقع القلق الذي ينبغي أن يظل إعرابه الأمثل أنه "لا محل له من الإعراب".

من الهوس غير المفهوم ولا المبرر بالتقعيد والتنظير والتقنين أن تحال الطفرة الموسيقية ومنصّة إطلاق النغم التي ابتكرها بليغ حمدي (أكتوبر/تشرين الأول 1931- سبتمبر/أيلول 1993) إلى ما يسمّى بمحطة تطوير فنية أو ما يُطلق عليه "مرحلة" من مراحل نضج "الموسيقى الحديثة" في النصف الثاني من القرن العشرين، هكذا بكل أريحية، ودون أدنى تخصيص.

في تلك الدائرة المغلقة الضيّقة من الفهم والوعي والقدرة على التلقي والتنقية والاستقطار والتحليل، تستوي لدى المُنظّرين أطوال أقطار الدائرة، وكذلك أطوال أنصاف أقطارها، العابرة بالضرورة بنقطة مركزية راسخة، جرى الاتفاق على أنها محطة موسيقار الأجيال "المجدد" محمد عبد الوهاب.

وإذا كان دعاة التعميم الفج، الأصخب صوتًا، قد انحازوا إلى الثالوث (محمد الموجي، كمال الطويل، بليغ حمدي) كأبرز أضلاع "الجيل الثاني" في التطوير، بعد ريادة عبد الوهاب، وتحت مظلته، فإن هواة آخرين للتعميم، في اتجاه مخالف، أمكنهم تعيين "محطة" بليغ حمدي التطويرية بمنظور آخر، إذ جاء وحده تاليًا لمحطات أخرى ابتدأت بالرائد سيد درويش، بوصفه الأصل الذي تلته الفروع: محمد القصبجي، محمد فوزي، منير مراد، ومن بعدهم بليغ.

بطبيعة الحال، يختلف الفريقان في الدرجة وطبيعة الرؤية والتصور والفلسفة والانحيازات، لكنهما يتطابقان في النوع، فكلاهما لا يرى في الإسهام الفردي غير عنصر من عناصر البناء الجماعي، فالفرد يملأ الآنية الضخمة من بحر السابقين أولًا قبل أن يسكب فيه بعض القطرات، وكلاهما يرى موسيقى بليغ، في مجملها، بمنطق الكتلة الواحدة، فهي إما شرقية حديثة (تركية غربية مطورة في المقامات والإيقاعات والتوزيعات والآلات والكورال وخلافه) وفق الفريق الأول، وإما مصرية شعبية (فلكلور محلي بصيغ عصرية) وفق الفريق الثاني.

لا يخلو المنطقان، والتصنيفان، من جُملة أمور صحيحة في ما يتعلق بموسيقى بليغ حمدي، فله قفزات في هذه المشاوير كلها، لكن الفرادة والاستثنائية والريادة تأتي من الخلطة الموسيقية السحرية والدفقة التعبيرية الانفعالية والقدرة الشفيفة على السرد الدرامي ومزج الثيمات وصهر الموتيفات وإذابة الأنساق المتجانسة والمتعارضة في آن، والإيقاعات الدارجة الشرقية والغربية، والموروث الشفاهي في المناسبات الاجتماعية والدينية المختلفة، وغير ذلك، لتخليق كينونة نغمية ذات هوية محلية جامعة، وذات سمات شخصية منفردة مستقلة كالبصمات، فتصير الموسيقى والغناء مرآة صغيرة لكل فرد على حدة، وجدارية كبرى للشعب المصري وتاريخه في الوقت نفسه.

المدهش، أن تلك الشحنات المكثفة والمعقدة تأتي في سياق البساطة الظاهرية، المحتوية على عمق إنساني نادر ينفذ إلى طبقات متجذرة في الأرض ويرقى إلى درجات سامية في الشعور، من خلال تشخيص الجوهر وتحقيق المعنى باستحضاره وتجسيده مثلما هو، لا بالحكي عنه أو بتوصيفه من الخارج مثلما تفعل أغلبية الفنون والإبداعات.

ولعل تلك الانعطافة الموسيقية فائقة الطاقة متقدة الموهبة الخام تفسر وصول موسيقى بليغ إلى ذروة الاتساق مع صوت عبد الحليم حافظ، المتجرد من الحليّ الاصطناعية ووسائل التطريب والزينة واستعراض العضلات، فروائع مثل "حاول تفتكرني" و"موعود" و"أعز الناس" تمكنت من أن تحقق "فعليًّا" للمتلقي حالات مكتملة من الانخراط الملموس في مذاقات العذاب والفقد والوفاء بالذكرى وغيرها من المعاني والأحاسيس البكر، التي لم تكن الموسيقى من قبل قادرة على تخليقها من لحم ودم أو التعبير عنها حكيًا وتوصيفًا بسبب شروطها القاموسية التوصيلية المحدودة، مهما بلغت الموسيقى من تجريد وتكثيف.

من تجليات الإعجاز في موسيقى بليغ كذلك أنه في أوضح صور ما يسميه المنهجيون "إعادة إنتاج التراث"، يُنشئ ولا يكرر، ويقدم جديدًا لا موروثًا، وكذلك شأن الشعراء الذين تعامل معهم، وعلى رأسهم عبد الرحمن الأبنودي.

وفي هذا التوجه غير المسبوق ما يفسّر غضب بليغ في أحد اللقاءات التلفزيونية قبيل رحيله، حينما أشارت المذيعة إلى وجود "اختلاف" بين "أنا كل ما أقول التوبة" المأثورة والأغنية التي قدّمها بليغ بأنغام وتوزيعات مغايرة، فهنا استشعر بليغ أمام سذاجة السؤال أنه لم يفعل شيئًا في حياته، وراح هو يتساءل عن معنى العبث السائد في فرق الموسيقى العربية ولدى بعض الملحنين والمنشدين والمطربين من القائلين باجترار التراث كما هو بهدف "إحيائه"، فهل فعل التقليد غير موت صريح؟! وهل سمعت المذيعة يا ترى عن أصول تراثية مباشرة لأعمال بليغ الأصيلة الهاضمة للوجدان الشعبي في سائر المحافظات المصرية مثل "بهية" (محمد العزبي) و"عدوية" (محمد رشدي) و"غزال إسكندراني" (محرم فؤاد) و"قولوا لعين الشمس" (شادية) و"على رمش عيونها" (وديع الصافي)؟!

إن التعامل مع بليغ حمدي لا يجوز أبدًا بمنطق القياس والمناظرة، سواء في مجمل تجربته أو في تفصيلاتها المتعددة وجوانبها الثرية وزواياها المتنوعة، ويكفي مثلًا تلك الابتهالات التي لحّنها للشيخ سيد النقشبندي، والتي لم تكن أدعية وتواشيح وأذكارًا كما في الموروث الشعبي والديني والصوفي، وإنما جاءت حالات تعبيرية درامية منغّمة تندرج تحت إطار الغناء المكتمل، وقد تُستخدم فيها التوزيعات المركبة والكورال وسائر عناصر الفن الموسيقي المتفوقة، ومن أبرزها "مولاي إني ببابك قد بسطتُ يدي".

أكسبت القدرات الخارقة بليغ حمدي الفرصة لتعامله في سن مبكرة مع كبار الأسماء اللامعة في المشهد الغنائي، ومنهم أم كلثوم، عبد الحليم، فايزة أحمد، شادية، صباح، نجاة، وردة، كما صنعت هذه القدرات الفذة المواهب الشابة الصاعدة من أمثال: عفاف راضي، محرم، رشدي، العزبي، هاني شاكر، ميادة الحناوي، علي الحجار، محمد ثروت، سميرة سعيد، عزيزة جلال، وآخرين. وبتفاوت إمكانات هذه الأصوات وتنوع مساحاتها وتعدد ملكاتها، تمكن بليغ من تحقيق حلمه بتفصيل أثواب موسيقية من نسيج واحد ومنبت مشترك، لكنها تلائم سائر الفصول والمناخات والمناسبات، تستوي في ذلك الرومانسيات والوطنيات والحماسيات والابتهالات والإرهاصات الشعبية وأغنيات الأطفال والمسرحيات والأعمال الدرامية والكورالية، والمنمنمات القصيرة وملاحم الحفلات الطويلة "قوالب التشكيلة"، خصوصًا مع عبد الحليم، ثم مع وردة التي وجد فيها ضالته للجمع بين الجماليات والقوة والإبهار و"الدندنة".

بقيت الإشارة إلى المدخل السري لتجربة بليغ حمدي الفنية والحياتية، وهو المزاج المتقلب المشحون بالتوتر والفوضوية، ولذلك فإن لوازم التخطيط والذهنية والاحتراف تبدو أمورًا مدرسية غير متحكمة كثيرًا في انفجارات بليغ العفوية التلقائية، الغزيرة حد الجنون، إذ كان بمقدوره تلحين أغنية كل يوم، وارتجال مئات الجُمل الموسيقية في المجالس الخاصة والجماعية، وابتكار إيقاعات وأوزان غير مألوفة على الأذن المصرية والعربية، على أن مثل هذا النهج الذي يفرز التماعات فوقية غير مسبوقة، قد تنجم عنه أحيانًا أعمال اعتيادية من فرط التأليف المستمر ليل نهار دون انقطاع.

بليغ حمدي، سيرة نغمية وإيقاعية تساعد الإنسان على تنشيط دقات قلبه والاستماع لها في همسها الدافئ وصخبها المحموم، ودورة دموية مكتملة تحقن خلايا البدن والروح بأوكسجين الفن في أنقى صوره ووجوهه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024