مسرحة "من قتل أبي": رُبّ إخفاق نافع

روجيه عوطة

الجمعة 2019/03/15
ليس من السهل مسرحة نص روائي، فهذا يتطلب ما يشبه إعادة كتابته لأجل تحويل تشكيله السردي إلى تشكيل مناسب مع الخشبة، التي، وبدورها، تضيف إليه بُعداً ليس بالضرورة متعلقاً بتمثيله، وإنما بجوّه على العموم. 

لكن هذا ليس وضع المسرحي ستانيسلاس نوردي، حيال نص الروائي إدوارد لويس "من قتل أبي"، بحيث أنه اخفق في نقله، فأتت مسرحيته، التي بدأ عرضها منذ يومين في باريس، مجرد تقديم لمقاطع متلاحقة منه، من دون اي إضافة اليها. بالتالي، دارت المسرحية كأنها جلسة قراءة، يزاولها نوردي بصوت مرتفع أمام الجمهور، الذي لا شك أن ضجراً شديداً قد خيّم عليه.

فحتى لو جرى الاعتقاد بأن قراءة نوردي لنص لويس، بمثابة مسرحة له، فمن نافل القول أنه لم يتمكن منه، أي لم يمسك نبرته، أو لم يقترب من تصويت معناه. إذ بقي، وفي أثناء قراءته له، كمن يحاول ان يبدي تأثره به، وفي كل مرة، يخونه الإبداء هذا. كانت قراءة نوردي مونوتونية. كما أنه، وحين زودها بأداء مؤلَّف من بعض الحركات الجسدية، كالإسراع في المشي أو التجمد، ظهر تفاوت بين لفظه وانفعاله.


استمر نوردي في قراءته هذه. وبذلك، كان نص لويس، وعندما لا يجري عرضه على الجدار، يبدو أنه ليس على الخشبة، بل لا يزال بين دفتي كتابه. إذ أن الاستماع اليه، إلى مضمونه، وهو حديث لويس الموارب مع أبيه وعن أبيه، لا يحمل سوى على المضي إلى قراءته مرة أخرى. وهذا، في كل حال، إشارة إلى قيمته. بحيث أن مسرحته، وربما أفلمته لاحقاً، لا تؤدي سوى إلى دفع الجمهور إلى قراءته - أو تكرار قراءته - إثر اكتشافه.

في هذا السياق، من السانح قلب إخفاق نوردي في مسرحة نص لويس، إلى فعل سياسي، لم يقصده بالطبع. فلما كانت قراءة "من قتل أبي" بمثابة سبيل الجمهور إلى تذكر الطبقات العمالية الفرنسية، التي ينتمي والد لويس إليها، ولما كانت هذه القراءة سبيل الجمهور اياه إلى استحضار وجع تلك الطبقات بطريقة كتارسيسية واضحة، فما كان ينقصها كي تكتمل، سوى المشهَدة، لكي تعين جمهورها على ممارسة تطهّره على نحو افضل. لهذا، وعندما اخفق نوردي في المسرحة، بدا أنه لا يزود ذلك الجمهور بما يريده لكي ينجز طقسه حيال الطبقات العمالية، التي يصير كل عيشها في الوجع مجرد موضوع يجري الاطلاع عليه، وأحياناً استكشافه، من أجل ادعاء تبديد نكرانه. لكن، وبالطبع، ادعاء تبديد النكران هو نكران أيضاً، وعندما يبدو لأصحابه كذلك، يسرعون إلى مواصلته، وهكذا يتضاعف النكران.



لم يوفر نوردي للجمهور مجموعة من المشاهد التي ترتكز على الوقائع التي يسجلها لويس في نصه. بل استعاض عنها بمجسمات تجسد الأب، والد الروائي، وكان عددها يزداد مع تقدم القراءة من نهايتها. مجسم على الطاولة، وآخر على الأرض، وثالث على الحافة... فالجمهور، الذي كان قد قرأ نص لويس من قبل، تسكنه رغبة في التعرف على والد لويس، بوصفه نموذج المنتمين إلى الطبقات العمالية. فإذا استطاعوا رؤيته، وجهه وهيئته، سيرون وجهها وهيئتها، فيتعرفون عليها شخصيا! لكن هذه الطبقات ليست شخصاً واحداً. فها هي مجسماته، وعندما تتكاثر، تخبر ذلك، تقول أن أبا لويس هو الغالبية في البلاد.

رُبَّ إخفاق نافع إذن. لكن، وبما أن نوردي لم يقرره مسبقاً، سيظل نفعه متلاشياً. ومع أن قَلبَه الى فعل سياسي هو أمر متاح، إلا أن هذه الإتاحة تجعل تسيّسه زائلاً. فالجمهور، وبعد سماعه قصة لويس وأبيه، لا يسعه سوى أن يفعل ما اعتاد فعله: أن يصفق، أن يصفق للوجع، ويعود إلى المنزل، حيث لا يتوقف عن كتم وجعه.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024