العالم قذر بما يكفي لنزع الهالة عن كل شيء(*)

فوزي ذبيان

الأربعاء 2018/12/19
(*) ربما سبب هذه الطفرة في الإنتاج الروائي يكمن في قدرة الرواية على التعبير أكثر من غيرها. فالعالم العربي هو عبارة عن خزان ضخم من الخيبات والبؤس والتدين والتخلف وكما هو الحال في لبنان مثلاً، هو خزان من الانتصارات الكاذبة. فالرواية تستطيع أن تلبي حاجة الكاتب في أن يفش خلقه أكثر من المدونات النصية أو البصرية الأخرى. هذا فضلاً عن سهولة النشر وتيسره بالإضافة إلى سبب آخر يغريني التكلم عليه وهو التصور النوستالجي عن الكاتب الذي يخالج الكثير من الناس وهو تصور مستمد من سرديات لها علاقة بتراث العرب البياني كما أظن، بالإضافة إلى عوامل أخرى كرغبة الذين لم يخرجوا من أحضان امهاتهم بعد بالتصفيق والحضور الدائم وهذه الأمور التي افهمها. 

لا يعنيني من خبريات الجوائز سوى ذلك "البعط" الذي يرافقها عبر الميديا من قبل الكثير من الكتاب والكاتبات، والأمر لذيذ كموضوع لرواية كوميدية لكن حزينة (على غرار الجندي الطيب شفايك، بصرف النظر عن اختلاف المواضيع). بالنسبة إليّ لا توجد في العالم هيئة معنوية يمكن أن تملي عين وقلب الكاتب الأصلي بدءاً من لجنة نوبل للآداب، وصولاً إلى اللجنة الثقافية في قريتي والتي تقدم الجوائز السنوية لشعراء الزجل هناك. "العالم قذر بما يكفي ليشي بنزع الهالة"- اذا أردنا أن نستعير فالتر بنيامين- عن كل شيء سوى عن شركات السلاح والمصارف وما شاكل. قد يتساءل احد ما بخبث وهو يقرأ هذا الكلام اذا كنت سأرفض جائزة ما في حال عرضت علي، اقول لهذا الإنسان كلا، لا أرفض. فكما قلت، العالم قذر بما يكفي لأن نتلوث فيه جميعاً، والا لا نستطيع ان نستمر. (حدا جايي يقلك هول 100 الف دولار، بتقلو لا!!!!).

في ما يتعلق بعدم انتاج الرواية العربية للبطل أقول: لا يوجد لدى العرب سوى بطل واحد هو الرسول محمد واعادة انتاجه بصورة مغايرة عن المتخيل العام ضرورية إنما يبدو أنّ أوانها لم يحن بعد. أما الأبطال الآخرون، لا سيما في السياسة والحروب، فإن بطولاتهم اتخذت طابعاً هشاً منذ أبطال الحركات الاستقلالية حتى آخر "بطل" في العالم العربي اليوم. ثم ان كلمة "بطل" بحد ذاتها تستبطن مدلولات تتجاوز بعدها المحض معجمي. فأبطالي، على سبيل المثال، هم اكثر فئات المجتمع هشاشة وأكثرهم ضعفاً. إن بطل العالم العربي هو ذاك العاطل عن العمل والذي يتسكع في الشوارع بلا أمل، أو ذاك الذي يغرق قبالة السواحل الأوروبية أثناء فراره. المهمش هو البطل، أما الآخرون فهم سفلة العالم وشياطينه. فعل البطولة الوحيد الذي يمكن ان يُعتد به في أي عمل روائي هو بطولة الفار من الجندية، أو بطولة أن يقبّل الشاب العربي حبيبته على الكورنيش، أو أن يسرق من صندوق المسجد أو الكنيسة كي يطعم أطفاله او يذهب هو وحبيبته الى الفندق... سحقاً للأبطال الآخرين. تصوُّري عن البطل الكلاسيكي والذي يسعى للانتصارات العظيمة هو التالي: انه شخص يهوى جمع أعواد الثقاب لإعادة إشعالها في وقت لاحق كي يعود وينتصر من جديد.

بخصوص انكباب القارىء العربي على الرواية المترجمة، افضل ان تكون مقاربتي اقرب الى السيكولوجيا. كل قارئ يستبطن اثناء فعل القراءة، رغبة في أن يكون هو أيضاً كاتب، انما ليس فقط كاتب على مستوى العالم العربي، بل كاتب عالمي (وله الحق في ان يحلم). بالتالي ان هذا الانكباب على الأدب الأجنبي يستدعي بعض التماهي مع هذه "الأجنبية" كواقعة تتخطى عالمه الهش. ثمة ضعف غير مبرر في الكثير من الأحيان امام كل ما هو أجنبي ولعل الأمر يتعلق بنظرة ما إلى الذات إزاء هذا الاجنبي، مع التذكير بأن ثمة روائع في الأدب الأجنبي لا يمكن الا الوقوف امامها بإجلال. وهذه الأعمال، وانطلاقاً من هذه النظرة، ليست غريبة عني كعربي، إنها أعمال عالمية وكفى. فشخصية اوسكار في الطبل الصفيح لـغونتر غراس تتجاوز ألمانية بل أوروبية بل غربية هذا العمل، ليكون عملاً انسانياً بلا حدود، وهو ما يمكن ان نلحظه في ناقة الله للكاتب الليبي ابراهيم الكوني على سبيل المثال لا الحصر. العالمية من هذا المنظور شيء محترم، انما ان تكون العالمية معطوفة على محض نيل هذا العمل او ذاك لهذه الجائزة او تلك لأسباب لا تتعلق بالناحية الإبداعية... ان في الأمر نظر. 

الرواية العربية إلى أين. الآن لا أعرف. أما في المقبل من السنين سيكون لها شأن عظي.. إذ، من المستحيل أن لا ينتج كل هذا الدم النازف في عالمنا العربي نصه الخاص به والذي سيتجاوز - وانطلاقاً من هذه الخصوصية بالذات- حدوده، ليستثمر في التأسيس لنمط آخر من تلقف العالم غير هذا التلقف القذر الذي نُجبَر عليه كلنا اليوم.

(*) مساهمة الروائي اللبناني فوزي ذبيان في ملف "الرواية العربية.. إلى أين؟".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024