العهود القويّة وخيالات الصحراء

أسعد قطّان

الأحد 2020/06/28
«لأنّ (الربّ) انتظر حقّاً فإذا سفك دم/وعدلاً فإذا صراخ» (من نشيد الكرم لإشعياء النبيّ)

حين نظر خيال الصحراء إلى الأفق المتقّد بحرّ الظهيرة القائظ، لم يرَ أنّ الكرم تحوّل في الأشهر الأخيرة إلى يباس. كلّ ما استرعى انتباهه هو أنّ العصافير ما عادت تقصد الكرم، تلك التي كانت تأتي لتسترق حبيبات الثمار المعسّلة، قبل أن يسقطها نضوجها المتثاقل على قارعة الأشجار، ثم تخترق الفضاء بطيرانها سكرانةً بالغنيمة المتراقصة في مناقيدها.

لقد هجرت العصافير الكرم إلى غير رجعة. ولكنّ خيال الصحراء لم ينتبه إلى أنّ اليباس هو ما دفعها إلى الرحيل. لم ينتبه إلى الأغصان التي تحطّبت وجفّ فيها النسغ. لم ينتبه إلى إناث النحل التي دبّ فيها الذعر بسبب تخشّب الأزهار فراحت تتصادم فاقدة العقل. لم ينتبه إلى حشرات الأرض التي تترنّح بجنون باحثةً عمّا تقتات به في زوايا الجذور ومسام الجذوع المائتة. لقد تحوّل الكرم إلى ركام. ولكنّ ما كان يشغل بال الخيال هو أنّ العصافير انقطعت عن ارتياد الكرم. فراح يسائل ذاته عن مبرّر وجوده الآن وعمّا سيحلّ به من دون العصافير.

ما كادت هذه الأفكار تستحوذ عليه، حتّى إلتمعت في رأسه فكرة. سيذهب إلى ناطور الكرم ويحتسي معه كأس نبيذ مسائيّ. وفيما هما يحتسيان الخمر ويزدردان المكسّرات، سيقنعه بأن يطلق النار من وقت إلى آخر على العصافير، فيقتل بعضها ويجرح بعضها ويُرهب بعضها. هكذا تفهم العصافير أن لا شيء بديهيّاً في حياتها: لا الفضاء بديهيّ، ولا الهواء بديهيّ، ولا الطيران بديهيّ، ولا الحرّيّة بديهيّة، ولا الحياة بديهيّة. عندئذٍ، ستهرع إليه العصافير متوسّلةً أن يتوسّط لها لدى ناطور الكرم كي يمتنع عن إطلاق النار عليها. ولكنّ خيال الصحراء أذكى من أن يجيبها إلى طلبها بسرعة. سيتركها ترجوه وتتضرّع إليه، سيملي عليها شروطه المذلّة ويتفرّج عليها تتشاجر في ما بينها، ثمّ يتدخّل ليضطلع بدور الحَكَم الذي يحبّ العصافير ويتفجّع لمآسيها. وسوف يعدها بأنّه لن يسمح لها من الآن فصاعداً بأن تتشاجر في ما بينها حتّى لو اضطرّه ذلك إلى نتف ريشها وقصّ أجنحتها ونشر مناقيدها. وفي نهاية المطاف، ستقبل شروطه صاغرةً وتعود إلى الكرم، فيستعيد من جديد كرامته ومبرّر وجوده أمام الناطور، وأمام الأشجار الباسقة... وأمام نفسه.


شعر خيال الصحراء، حين راودته هذه الأفكار، بزهو الانتصار الذي يجتاح كيانه الأجوف. لقد رسم خطّة الطريق للسنوات المقبلة. هي خطّة محكمة لا يرقى الشكّ إلى قابليّة نجاحها. حملق الخيال في البعيد وراح ينتشي ببديع خياله. ولكنّه لم ينتبه إلى يباس الكرم وجفاف الأغصان وتخشّب العشب وترنّح حشرات الأرض. كان القيظ ما زال يتكدّس على جذوع الأشجار المتحطّبة، وطنين إناث النحل يؤذن بجنون من نوع آخر...
...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024