وثائقي "الكهف".. العمل النسوي تحت قنابل الكلور

ياسر أبو شقرة

الأحد 2020/02/16
لقطة ثابتة واسعة للغوطة الغربية من مكان عال، تنزل أول قذيفة لتفاجئ المتلقي وتعكر صفو نهار المدينة، تتبعها أخرى، فأخرى، يمتلئ الكادر بالغبار والدخان إثر القذائف التي سقطت جميعها داخله، تنسحب الكاميرا برفق نزولا كما لو أنها تمر بشرايين بناء متهالك، وخلال النزول، تظهر بعض المعلومات كتابة على الشاشة، ملخصها أن 400 ألف مدني مازالوا في الغوطة بعد هجوم النظام الكيماوي عام 2013، عبور الشارع يعرضهم للخطر، ولا يوجد لهم مخرج، إذن نحن في رحلة تشبه حركة الكاميرا نحو الأعمق، الأسفل، القاع، لتنتهي اللقطة بشمعة يغلفها ظلام دامس، وننتقل بعدها لوجه الدكتورة أماني بلور، شمعة هذه الغوطة في عتمتها، هكذا صنع المخرج فراس فياض أحد أجمل الافتتاحات في السينما السورية المعاصرة.


ينطلق الفيلم من شعرية هذه الصورة المأساوية باتجاه عنف المكان، فبعد أن دربتنا نشرات الأخبار على رؤية طفل يتم إخراجه من الركام، يبدأ المشهد مع الطبيبة أماني بلور وهي تحاول إخراج الركام من طفلة وقد امتلأ فمها بالحجارة والطين، لقطة أخرى لطفلة تقول إنها أصيبت وهي تحاول تأمين المياه للمنزل، فالأحداث بمجملها تدور في المشفى الميداني الذي سمي الفيلم على اسمه، الكهف*، وأبطاله فريق الطبيبة أماني بلور الذي يتكون جلّه من النساء، والطبيب سليم، الذي يقوم بأعقد العمليات الإسعافية على ألحان الموسيقى الكلاسيكية.

في مشهد يجمع الدكتورة أماني والدكتور سليم مع رجل جاء يطلب دواء، ليجد أنه غير متوفر في الغوطة الشرقية بسبب حصار النظام لها، ينتقل الحديث من عوز هذا الرجل وضيق حاله، ليسفر عن ذكورية تعكس واقع مجتمع كامل، إذ يعتبر أن مشكلته الحالية هو أنه يكلم امرأة لا يجب أن تكون موجودة في منصب مدير المشفى، ويخبرها أن مكانها المنزل، المشهد الغني يرينا ردة فعل الطبيبة التي تسأله من يكون حتى يقرر لها حياتها وما تفعله، بصلابة وجرأة حسب معايير المجتمع الذي يصوره الفيلم، وردة فعل الطبيب سليم، الرجل الرقيق المتعلم والمتزن، والذي يشرح له باللين أن وجودها كطبيبة مشفى لم يغير من طبيعة عمله كطبيب شيئا.

منذ بداية الفيلم يضع المخرج خطوطا إضافية، ليبرز أن عنف النظام الحاكم في سوريا، ليس مسؤولا فقط عن كل الضحايا الأطفال الذين نراهم مع تتابع الفيلم، إلا أنه مسؤول أيضا عن تخلف مجتمعات بأسرها، عبر إفقارها، وتجهيلها، وترسيخ هذا التخلف من خلال الترويج الإعلامي له كمسلسل "باب الحارة" الذي طال عرضه لسنوات، ولا تبتعد القيم التي يجاهر بها عن طريقة تفكير هذا الرجل الذي وجد أن المرأة لا مكان لها سوى بين جدران المنزل.

لا تعقيد في بنية الفيلم سوى أنه ينتقل بين حجم الخطر الذي يعاني منه طاقم المشفى، بالاستهداف الدائم من قبل طائرات النظام، وحجم التعب والجهد النفسي والعاطفي، والخط النسوي الواضح منذ بداية الفيلم، إذ إن والد الطبيبة أماني وهو المقيم مع بقية أهلها خارج الغوطة الشرقية، يرسل لها تسجيلات صوتية مفادها أنه يتمنى لها لو كانت ذكراً، لأنه من المحتمل أن تكون الأنثى سلاحا بيد المقاتلين. هنا يتعمق نضال الطبيبة لا عن طريق المجازفة بحياتها فحسب، إنما على صعيد دورها النسوي في ظل هذا المجتمع الذي يرفض دورها الاجتماعي ولا يستطيع الاستغناء عنه للحظة واحدة، فالضحايا في توافد إلى المشفى على مدار الساعة، وعلى مدار دقائق الفيلم كله.



مع مرور المشاهد تشعر أن الطبيبة أماني هي أكثر نساء الأرض قهراً، إلى أن يأتي المشهد العنيف، رغم خلوه من أي دماء أو أعمال عنف مباشرة، إذ تذهب الطبيبة أماني في جولة إلى البيوت مع صديقتها الدكتورة آلاء، وتدخلان إلى منزل بائس نرى فيه أماً تخفي وجهها بالنقاب، تجلس مع أطفال جائعين، وتشرح حالة أصغرهم وهو في عمر الـ 11 شهرا، وبينما تغيب أي معلومات عن رجل المنزل، نعلم أن الطفل يعاني من سوء تغذية يمنعه من الجلوس أو المشي، تسأل الطبيبة أمه فتخبرها عن سوء الحال وعدم القدرة على تأمين الطعام في الحصار، فتعرض عليها أن تبحث لها عن عمل، لتجيب الأم المنقبة من وسط جوع أطفالها أن مجتمعها لا يسمح لها بالعمل، وعلى طريق العودة من الزيارة المأساوية، تحدث أماني صديقاتها عن رغبتها في تغيير العقلية الذكورية لهذا المجتمع، الذي يأخذ رجاله من الدين ما يحلو لهم وما يناسبهم، بينما يمررن بالسيارة من أمام جدارية وسط الدمار كتب عليها: "لا خير في أمة ولّوا أمرهم لامرأة".

تتشابك خطوط الفيلم إلى أن يصل إلى ذروته حيث تأتي الضحايا لتموت في المشفى دون أن يكون بهم إصابة واحدة، ما كشف سريعا لطاقم المشفى ولجمهور الفيلم أن طائرات النظام هذه المرة استهدفت الغوطة بالكلور، لنرى عجز الفريق الطبي عن إسعاف الجميع، وبكائه، وانهياراته النفسية. الضربات التي حصلت عام 2018، خرج على أثرها فريق المشفى مع السكان من الغوطة الشرقية لدمشق، نحو منفاهم المؤقت في إدلب.

*الفيلم رشح لأوسكار 2020، في ثاني ترشيح للمخرج فراس فياض بعد فيلمه السابق "آخر الرجال في حلب"، والطبيبة أماني حضرت الحفل بزي صدم الكثيرين ببساطته واحتشامه، لتثار حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تمس بأنوثة الدكتورة أماني، دون أن يعي أصحابها، ما قامت به من عمل نسوي تحت أقسى الضغوط الاجتماعية، والضربات الجوية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024