لا عزاء لباربرا

هدى بركات

الإثنين 2016/11/14
 
تدرّس باربرا في جامعة بولاية تكساس. في شبابها كانت مناضلة يساريّة عاشت سنوات بين مصر والمخيّمات الفلسطينية في الأردن ولبنان. ما كتبته وتكتبه اليوم يُعتبر في أقصى ثقافة اليسار الأميركي، المنحسر والمتراجع إلى هامش الهامش.

بيني وبين باربرا علاقة مميّزة. فأنا أستظرف "تطرّفها" وشطحات فكرها النقدي خاصة حين تشارف على كأسها الرابعة... وهي تعتقد إنّي ألاطفها من أجل أن أخفّف عنها ذلك الشعور بالذنب تجاه التاريخ والشعوب المقهورة – وأنا إذن من ضمنهم – لما ارتكبته وترتكبه السياسة الأميركيّة من فظائع...

من "وحي" الرسالة التي كتبتها لي باربرا بعد انتخاب ترامب هذه الإقتباسات:
صديقتي العزيزة،
حصل إذن ما كنت أتوقّعه، ما كنت أهجس به ككابوس. طلعت نتيجة الفحوص: إنّه السرطان. ليس هناك من عزاء، ولا حتّى خسارة الشرم... هيلاري كلينتون. كنت أتمنّى الموت قبل أن أعيش ما حصل في هذه البلاد الملعونة. والآن أنا من العمر بحيث لا أستطيع الهرب من هنا...

كنت تقولين إنّي أبالغ في نقدي لبلادي. الآن تعرفين عمّا أتكلّم. هذا هو الرئيس الذي انتخبه الشعب. لأن الشعب الأميركي يريد من يشبهه. إنّه الأميركي بحقّ وبجدارة. أعتقد أني سأقلع عن قراءة الصحف، أو أي شيء يُعلمني بما سيجيء وبما سيحصل للعالم. ليس هناك من مسؤول وكلّ ما أقرأه هراء. لا التافه أوباما، ولا تشبّث الديمقراطيين بهيلاري بدل ساندرز. إلخ إلخ...

إنّنا في زمن ترامب. هذا جليّ وترين الآن أنّي لا ابالغ. الرجل الأبيض في أبهى حلّة. أقلّه أنّه واضح. الرئيس الأميركي السافل الصريح. هذا يخفّف عني عناء التحليل. وهكذا أعرف أني عبرت إلى زمن مختلف. زمن أنا أصبحت خارجه تماما، وبلاد لا رغبة لي في استرجاعها. في الواقع لا أمل في ذلك.

صرت لا أردّ على الهاتف، ولا أخرج إلى المقهى الذي أحببتِه ولا أرى أحدا. أعتقد أني مريضة قليلا. ربما أتحسّن بعد أيّام.

في الحقيقة ذلك يشبه مرارة الندم. شيء أبعد من حزن الخسارة. هذا لا يعني أنّي بريئة، ما يعذّبني هو أنّي لا أعرف أين أخطأنا، أعني إلى هذه الدرجة. لا أفهم – وهذا ما لا أحتمله – كيف انزلق العالم إلى ما صار عليه. و.. نعم، مهما قلتِ وسخرتِ أنا أشعر بالذنب، وبالخجل، ليس بسبب أنّي لم أنتخب – ما كان بمقدوري أن أضع "ورقة" كلينتون – بل لأنّي في مكان ما لم أفهم كيف توقّعتُ أنا نفسي هذه النتيجة الكارثة. لا بدّ أني أشبههم، وأني في النهاية أميركيّة. ما حدث ليس مجرّد حادث مؤسف. ليس صدفة تعيسة. نحن كذلك الرجل، مثله في العمق، والفوارق بسيطة وتافهة. بدليل ما سبق النتيجة في ال "حملات" الإنتخابيّة.
أفكّر بالإقامة لفترات طويلة في أوروبا، ولو متقطّعة طبعا...حيث أقترب ربما من أصولي الإرلندية.. هاهاها. لكن فكّري معي بوضع أوروبا. حتّى فرنسا، فرنسا نفسها تستعدّ لرئاسة مارين لوبن. والأمر إيّاه: سيقول الفرنسيّون إنّها مفاجأة. مفاجأة مذهلة وتعيسة...

على فكرة، لماذا لا تعودين إلى لبنان، الآن وقد نجحتم في انتخاب رئيس؟ ولو بإجماع "ما"، هذا أفضل من الحرب أليس كذلك؟ أم أنّك تتوقّعين أن يزداد الأمر تدهورا إذا ما ساءت أمور معتوهنا مع إيران؟ على أيّة حال لا مصيبة تقارن بمصيبة الفلسطينيين. لقد انتهت قضيّتهم. سوف يُذبحون في الصمت العمومي. كأنّ الإدارات الأميركيّة المتواطئة السابقة قد حضّرت لما سيحدث لهم. لا عزاء لا عزاء. نحن بلاد النسيان. طلاّبي لا يعرفون شيئا عن مذابح الهنود الحمر. ولا حتى عن حرب فيتنام. ولا عن تاريخ العنصرية المستمرّ أصلا. أعني هذا الجيل. يقولون هذا حدث في القديم، ما لنا وللتاريخ!... أتريدين أن يلتفتوا إلى الفلسطينيين؟ إنتهى الأمر.
(...)
فكّرت مرارا بالردّ على رسالة باربرا. لم أجد جملة مفيدة واحدة.
سأعاود التفكير...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024