ماذا يبقى من متحف الموصل؟

محمود الزيباوي

السبت 2017/03/18
عاد متحف الموصل إلى كنف الدولة العراقية مؤخراً بعدما دمّر محتوياته "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" الذي سيطر على المدينة في حزيران-يونيو 2014، وتناقلت وسائل الإعلام صورا لقاعاته التي خيّم عليها الظلام وتراكم فيها الحطام، وتكرّر السؤال: ماذا يبقى من كنوز هذا المتحف اليوم بعدما تعرّض لهذا الخراب الهائل؟ 


في الأسبوع الأخير من شباط-فبراير 2015، بث "المكتب الإعلامي لولاية نينوى" تسجيلاً مصوراً ظهر فيه عناصر من "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" وهم يسقطون ويدمرون تماثيل في متحف مدينة الموصل. في مستهل هذا التسجيل المصور، ظهر متحدث من تنظيم داعش، وقال: "إن هذه أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله، وتعود هذه التماثيل إلى حضارة الآشوريين والأكاديين وغيرهم، كانوا يتخذون آلهة يشركون بها بالله ويتقربون إليها بشتى القرابين". وأضاف في الختام: "أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بإزالة التماثيل وطمسها، وفعل ذلك الصحابة من بعده لما فتحوا البلدان، وهذه التماثيل والأصنام عندما أمر الله بطمسها وإزالتها هانت علينا، ولا نبالي إن كانت بمليارات الدولارات".

بعد هذه المقدمة، ظهر عناصر من التنظيم داخل المتحف وهم يرمون بعدد من التماثيل لتتحطم على الأرض، فيما تتردد فى الخلفية آيات من القرآن تروي قصة الخليل إبراهيم مع الأصنام وكيف أنه حطمها، ورافقت هذا الشريط عبارة "فجعلهم جذاذا"، المأخوذة من الآية التاسعة والخمسين من سورة الأنبياء.

بحسب الرواية الإسلامية، وُلد إبراهيم في بابل، وعُرف والده باسم آزر، وكانت مهنته صناعة الأصنام التي كان يعبدها قومه. لما شبّ إبراهيم، آتاه الله الرشد، فدعا أبيه وقومه إلى عبادة الله، وقال لهم: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون" (52)، "ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين" (56). ولمّا رفض القوم دوعته، قال في نفسه: "ولله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين" (57)، ودخل بيت الآلهة، وقام بتحطيم هذه الأصنام، "فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون" (58).

في المشاهد الخارجية التي نقلها هذا الفيلم الدعائي، ظهر أعضاء التنظيم في الجانب الشرقي من المدينة، أمام سور مدينة نينوى، العاصمة الآشورية الشهيرة. في العام 1941، كشفت مديرية الآثار العامة عن أحد أبواب هذا السور، وأطلقت على هذا الباب اسم "نركال"، إله العالم السفلي، واشتهر "باب نركال" بتمثالي الثورين المجنحين الكبيرين اللذين وجدا في مكانهما الأصلي على جانبي هذا الباب، وفي شتاء 2014 دمر تنظيم داعش التمثالين القائمين عند مدخل البوابة التي تقع خارج المتحف. في مشاهد الفيلم الداخلية، تظهر القاعة المعروفة بـ"القاعة الحضرية"، نسبة إلى مدينة الحضر الأثرية، وهي إحدى القاعات الأربع التي يحتويها متحف حيث تم تدمير عدد كبير من الآثار. مع انتشار صور هذا الحدث، نقلت وسائل الإعلام العديد من الروايات المتضاربة حول التماثيل التي جرى تدميرها، فرأى البعض أنها أصلية، ورأى البعض الآخر أنها نس. في هذا الصدد، قالت مديرة متحف الموصل، ريا عبد المحسن، إن أغلب مقتنيات المتحف نقلت إلى بغداد في وقت سابق ولم يتبقَ منها سوى ثمانين قطعة، سته منها مصنوعة من الجبس، والباقي اصلية. وأعلن وزير السياحة والآثار عادل فهد شرشاب، إن "داعش" حطّم 173 قطعة أثرية في المتحف.

تضمّ "القاعة الحضرية" مجموعة من الآثار التي جاءت من حملات التنقيب التي بوشر فيها في موقع الحضر منذ العام 1951. تقع أطلال هذه المدينة التاريخية على بعد على بعد 110 كيلومترات من مدينة الموصل باتجاه الجنوب، وهي من المدن القليلة التي لم تمتد اليها ايدي المنقبين الاجانب، وان كانت البعثة الألمانية قد زارتها وصورت بقاياها. ذكرها ابن الفقيه في "البلدان"، وقال في وصفها: "مدينة الحضر على برّيّة سنجار، وبينها وبين دجلة خمسة عشر فرسخا، وبينها وبين الفرات خمسة عشر فرسخا، وهي مبنيّة بالحجارة البيض، بيوتها وسقفها وأبوابها، وهي على تلّ ولها ستّون برجا كبارا، وبين البرج والبرج تسعة أبراج صغار، على رأس كلّ برج قصر، وأسفله حمّام، وقد حمل عليها نهر الثّرثار، ويشقّ المدينة ثم يخرج، وعلى حافتي الثرثار القرى والجنان". واستعاد ياقوت الحموي هذا الوصف في "معجم البلدان". شرعت مديرية الآثار العامة في استكشاف هذه المدينة العام 1951، وأوفدت هيئة من موظفيها الفنيين برئاسة فؤاد سفر ومحمد علي مصطفى، واستمرّ التنقيب حتى العام 1955. استؤنفت حملة التنقيب في 1960، وأدت إلى اكتشاف مجموعة من التماثيل والقطع الأثرية، نقل قسم منها إلى متحف الموصل، وقسم آخر إلى متحف بغداد. واللافت أن مقتنيات متحف الموصل لم تخرج من حدود العراق، ولم تعرض في الخارج.

قضى "داعش" على عدد من أشهر التماثيل الحضرية، كما يشهد الفيلم الذي نشره التنظيم. في مطلع الشريط، يظهر ثلاثة رجال وهم ينهالون بمطارقهم على تمثالين متجاورين. يُعرف التمثال الأوّل بتمثال "أثال"، أحد ملوك الحضر، وهو من القرن الأوّل، ويمثّل رجلاً ملتحياً يعتمر تاجاً، "يرتدي فوق بزته جبة من الفرو، ومن جانبه الأيسر يتدّلى سيف وضع عليه كفه الأيسر، ورفع يده الأخرى إشارة للأمان"، بحسب "دليل متحف الموصل" الصادر العام 1965. وهو، كما تقول الكتابة الآرامية المنقوشة على قاعدة التمثال، "أثال الملك الكريم، السلطان، عابد الإله، مبارك من الإله". أما التمثال الثاني، فيمثل ملكاً آخر، على رأسه التاج الشائع في عصره، يحمل بيده اليسرى ورقة نباتية، وفي اليمنى جوزة، ويتميز بحزامه الذي تحدّ طرفيه دائرتين تحتويان صورتي إلهي الشمس والقمر.

بعد هذا المشهد، تظهر أنقاض تمثال ثالث هو كما يبدو تمثال الملك سنطروق الثاني، آخر ملوك الحضر الذي تذكره كتب التراث العربية باسم السّاطرون، ثم تظهر أنقاض تمثال رابع تمثّل ملكاً آخر يحمل نسراً عظيماً، ويمثل هذا الطير راية المدينة برأي أهل الاختصاص. في الخلاصة، يمكن القول أن علماء الآثار كشفوا إلى يومنا هذا، 27 تمثالاً لملوك الحضر، قضى تنظيم "داعش" على أربعة منها بشكل كامل. كما قضى على تماثيل حضرية أخرى تظهر تباعاً في شريطه الدعائي. فبعد حامل النسر، ينقل الفيلم مشهد تدمير تماثلين يعودان لنبيلين من نبلاء المدينة. على مثال "أثال الملك الكريم"، يرفع الرجل الأوّل يده إشارة للأمان، ويتميّز بصورة خاصة بلباسه المزين بعناقيد وأوراق العنب. في المقابل، يظهر الرجل الآخر وهو يمسك دكة للبخور، ويلاحظ أنه يقف عاري القدمين، مرتديا ثوبا فخما زيّن بشبكة من النقوش. وفقا للتقليد الشرقي، لا تلتفّ الأثواب حول الأجساد التي تلبسها، بل تحجبها وتتحوّل الى نظام هندسي من الزخارف والنقوش. تحافظ هذه الزخارف الهندسية على صورتها المسطحة، فلا تخضع لاستدارة مفاصل الجسد وأعضائه، بل تبقي على تناغمها وتناسقها الدقيق.

يستمرّ مسلسل التدمير، ونشهد سقوط تمثال لمحارب فاقد الرأس يمسك  رمحاً وقبضة سيف يتدلى من نطاقه، ثم سقوط تمثال لهرقل، ويبدو أن التمثال الأخير هو في الواقع نسخة عن تمثال أصلي من محفوظات متحف بغداد. بعد هرقل، ينهال رجال "داعش" بمطارقهم على عدد من التماثيل يونانية الطابع، منها تمثال لفينوس، وآخر لإلهة النصر. يتهاوى على الأرض تمثال من الحجم المتوسط يمثل إلهة تجلس على العرش، ويظهر أن هذا التمثال هو كذلك نسخة عن تمثال أصلي محفوظ في بغداد. إلى جانب هذه التماثيل، يكشف الشريط عن عدد كبير من الألواح المزينة بالصور الناتئة التي طالتها حركة التدمير الممنهج كما يبدو.  

بعد دخول القوات النظامية العراقية إلى متحف الموصل، ظهر الخراب الكبير الذي لحق بالمتحف. بدت القاعات المظلمة مقفرة، وتحوّلت محتوياتها إلى أكوام من الحطام. هنا وهناك، تناثرت على الأرض بطاقات تعريفية تشهد لخسارة ما لا يقدر بثمن. نقرأ في إحدى البطاقات: "كأسان فضيان عثر عليهما في المقبرة الملكية في أور يعودان إلى 2600 عام قبل الميلاد". ونقرأ على بطاقة أخرى: "قطع صغيرة متنوعة عثر عليها في القصور الملكية في نمرود تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد". لم يبق في المتحف سوى قطع قليلة نجت من عاصفة "داعش"، منها نعشان مزينان بآيات قرآنية.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024