نظريّة المؤامرة واستحالة المنطق:اليونان مثالاً

أسعد قطّان

الأحد 2020/07/12
إذا كنت ذا عقل نقديّ يحلّل الأمور ويفكّكها، فإنّ أيّ نظريّة من نظريّات المؤامرة ستبدو لك هزيلة. فهذه غالباً ما تختزل ديناميّة الحياة بعدد قليل من العوامل، وأحياناً بعامل واحد فقط، فيما أنت تعرف أنّ الحياة أكثر تعقيداً. يضاف إلى ذلك أنّ نظريّة المؤامرة تفترض أنّ حفنةً من البشر تستطيع أن تهيمن على عشرات الملايين من الناس لا في الحاضر فحسب، بل في المستقبل أيضاً، بحيث يتحوّل هؤلاء إلى مجرّد دمىً تنفّذ اليوم وغداً مخطّطات أُعدَّت في حجرات مغلقة ودهاليز سرّيّة، وهذا عين الهراء. ما نقوله لا يستتبع طبعاً غياب بنى عولميّة تضغط على البشر وتحاول قولبتهم وتنميط سلوكهم. ولكن هذا شيء، واعتبار الناس مجرّد أدوات في مؤامرة كونيّة جرى رسمها مسبقاً شيء آخر.

ولكن على قدر ما تجد نفسك حاذقاً في مساءلة نظريّة المؤامرة وفضح سذاجتها، على قدر ما يظهر لك أنّك صاحب الموقع الأضعف حين تنخرط في نقاش مع مؤيّدي هذه النظريّة، لا لأنّك تفتقر إلى الحجج، بل لأنّك تكتشف أنّ المعطيات الموضوعيّة والمعلومات الدقيقة لا تعني لهم شيئاً. وتدرك تالياً أنّ الموضوع هو الافتقار إلى قاعدة منطقيّة مشتركة يُبنى عليها النقاش. وإذا غابت هذه القاعدة، تحوّل الحوار الإنسانيّ، الذي ينبني على المنطق، إلى استحالة منطقيّة. وحين يصبح المنطق مستحيلاً، ينتفي التواصل، وينتفي الحوار.
أين تتأصّل هذه الظاهرة الغريبة؟ وكيف يتكسّر المنطق على أسوار التفاهة؟ سبب هذه المفارقة أنّ نظريّة المؤامرة غالباً ما تكون مرآةً لخطاب يعتبر أصحابه أنّه «تنزّل» على قديس أو وليّ أو شيخ في صومعته. نحن، إذاً، أمام خطاب غيبيّ يعتقد القائلون به أنّه كشف إلهيّ نازل من علِ. وبفعل كونه كذلك، يصبح هذا الخطاب خطاباً ميتا-منطقيّاً، أي إنّه يتخطّى المنطق ولا يخضع للنقد والمساءلة العقليّة. لقد شهدنا، مثلاً، قبل بضع سنوات حين توتّرت العلاقات السياسيّة بين تركيا وروسيا استعادةً لخطاب منسوب إلى الشيخ باييسيوس الآثوسيّ (وأشدّد على كلمة «منسوب» لأنّ الرجل لم يكتب شيئاً، بل كلّ ما «قاله» منقول عنه، وشتّان بين القول والنقل) يتلخّص في أنّ روسيا ستشنّ حرباً على تركيا وتسترجع القسطنطينيّة (المدينة تدعى اسطنبول منذ نشوء دولة تركيا الحديثة). ولكنّها لن تعرف ماذا ستصنع بهذه المدينة، لذا ستردّها إلى اليونان. ويستخدم هذا الخطاب، كما نُقل، عناصر منسوبةً بدورها إلى القدّيس اليونانيّ قزما الإيتوليّ، الذي عاش في القرن الثامن عشر. لقد أجمع المحلّلون آنذاك على أنّ إمكان انخراط روسيا «الأرثوذكسيّة» في حرب ضدّ تركيا «المسلمة» أمر يخالف المعطيات السياسيّة والعسكريّة، وأنّ النزال المتبجّح بين الطرفين ليس إلاّ تكتيكاً مدروساً يهدف لدى كلّ منهما إلى تحسين موقعه في الحرب السوريّة وما يخالطها من حسابات جيوسياسيّة. ولكنّ أصحاب النظريّة الغيبيّة تشبّثوا بموقفهم، حتّى إنّ تبخّر آمالهم بتحرّر القسطنطينيّة من «نير» المسلمين بعد انقضاء أسابيع قليلة لم يحدُهم على مراجعة حساباتهم، فراحوا يبحثون عن نظريّة جديدة يروّجون لها.


أذكر أنّ مثل هذه السيناريوهات كانت رفيقتي الدائمة خلال السنتين اللتين قضيتهما في اليونان في مطلع التسعينات. مَن منّا لا يذكر حرب الخليج، التي شنّها جورج بوش آنذاك على نظام صدّام حسين بعد احتلاله الكويت؟ أصحاب النظريّات الغيبيّة كانوا يمنّون النفس بأن تتحوّل حملة بوش على العراق إلى حرب غربيّة على تركيا تنتهي باسترداد اليونان للقسطنطينيّة. وكانت «حجّة» هؤلاء استعادات ميتا-منطقيّة لنبوءات قيل إنّ القدّيس قزما الإيتوليّ تفوّه بها. ولكنّ نظريّات المؤامرة ذات الطابع الغيبيّ في أوساط أورثوذكس النصف الثاني من القرن العشرين أقدم من حرب الخليج بالتأكيد. ولقد كان بعضهم يحملها معه إلى سوريّا ولبنان من بلاد الإغريق بالاستناد إلى مجموعة من «النبوءات» المنسوبة إلى الشيخ باييسيوس الآثوسيّ، وكان آنذاك بعد على قيد الحياة. قوام هذه النبوءات أنّ الاتّحاد الأوروبيّ، الذي كان في طور توحيد عملته، قد أعدّ العدّة لحرب على الكنيسة الأرثوذكسيّة، وعلى اليونان وجبل آثوس تحديداً. وذلك عبر مسيح دجّال سيظهر قريباً كي يستعبد شرائح واسعةً من البشر ويختمهم بختم «الوحش».


من البديهيّ أنّ خطاباً كهذا يستند إلى تفسير مغلوط لبعض المقاطع من سفر الرؤيا. وهو يرتكز سيكولوجيّاً على أنّ اليونان من ضمن المجموعة الأوروبيّة بلد ذو قيمة كبيرة بالنظر إلى الثقافة، ولكنّها بلد هامشيّ من حيث القوّة الاقتصاديّة والإبداع العلميّ والتكنولوجيّ. ومن ثمّ، فإنّ بعض الأوساط في بلاد الإغريق، ومعظمها، ويا للأسف، يدور في فلك الكنيسة، كان يسعى إلى ردم هذه الثغرة عبر اختراع خطاب يعيد تشكيل الهويّة اليونانيّة وينسب إلى اليونان دوراً «لاهوتيّاً» يقارع دور الأمم الأوروبيّة الأخرى. وهو يتلخّص في الدفاع عن المسيحيّة الأرثوذكسيّة حيال مؤامرة منسوجة ضدّها تسعى إلى إسكاتها وكمّ أفواه «أنبيائها» الجدد. كلّ هذه السيناريوهات تندرج في سياق الإحباط الإغريقيّ منذ تحوّل المعطى اليونانيّ إلى معطىً هامشيّ في الثقافة الأوروبيّة بعد سقوط القسطنطينيّة العام 1453 مروراً بتهجير اليونانيّين من آسيا الصغرى والبنطس في مطلع القرن العشرين وصولاً إلى الاحتلال النازيّ لبلاد اليونان والاضطرابات السياسيّة فيها طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وأبرزها دكتاتوريّة السبعينات. ولكن من يهتمّ بكلّ هذه المعطيات التاريخيّة؟ ها أنذا أحاول من جديد أن أردّ على نظريّة المؤامرة الغيبيّة ومنطلقاتها الميتا-منطقيّة بخطاب علميّ منطقيّ. وهذا الخطاب، كما أشرت أعلاه، محكوم عليه بالفشل أيّاً تكن دقّته، ولا حظّ له في القيام بأدنى تأثير في معادلة الحوار المستحيل مع أتباع السيناريوهات الغيبيّة.


كانت مثل هذه الأفكار تتقاذفني وأنا طالب في اليونان في مطلع التسعينات. وصدف أنّي التقيت ذات يوم، مع بعض الصحب، بامرأة طاعنة في السنّ دعتنا إلى بيتها بعد قدّاس الأحد لتناول القهوة والحلوى. لا أعرف كيف حملنا الحديث إلى الاتّحاد الأوروبيّ. فإذا بالمرأة تهتف: «يا ولدي، أوروبّا الموحّدة مشروع جيّد لأنّها ستأتينا بالسلام». إنّ مَن نظر إلى عيني المرأة الملتهبتين حين كانت تتفوّه بهذه الكلمات لعلّه رأى كلّ قهر الذات الجماعيّة اليونانيّة، كلّ التهجير من الأرض التي سكنها هذا الشعب العملاق مئاتٍ من السنين قبل مجيء المسيح، كلّ الأسى المنبثق من القرى التي أحرقها النازيّون في الحرب، كلّ القلاقل السياسيّة والاجتماعيّة، وكلّ الظلم الذي لحق بالطلبة حين تنادوا إلى الحرّيّة في كلّيّة الهندسة في أثينا فدخل عليهم الدكتاتور الطاغية بعسكره وبساطيره وقمع ثورتهم المجيدة. بلى، أوروبّا مشروع جيّد لأنّ السلام مشروع جيّد. طوبى لصانعي السلام! بكلمات قليلة، كانت هذه المرأة التي تؤمّ الكنيسة كلّ أحد تفكّك على طريقتها نظريّات المؤامرة التي كان ينسجها أصوليّو الأرثوذكس آنذاك.

بعد بضعة أسابيع، رافقت بعض الصحب الآتين من معهد اللاهوت البلمنديّ في زيارة إلى جبل آثوس. لم يكن مخطّطاً له أن نعرّج على صومعة الشيخ باييسيوس. ولكنّنا فعلنا، وكانت فرحتنا كبيرةً أنّه كان هناك واستقبل مجموعتنا. كانت تلك المرّة الوحيدة التي أراه فيها. أذهلتني بساطة الرجل، وما كان عليه من ظُرف في العبارة وعفويّة في الحركات. كانت شخصيّة المتوحّد، الذي اقتنع ملايين الأرثوذكس بقداسته وهو بعد على قيد الحياة، في تناقض صارخ مع التنميط السلوكيّ الذي نجده اليوم عند كثر من الرهبان، وما يصاحبه في العادة من انقباض وتشنّج. أمام دعة المتوحّد باييسيوس وشفافيّته تدرك كيف أصبح هذا الرجل «قدّيسًا»، وتتوقّف عن طرح الأسئلة عن كلّ الخطاب الغيبيّ المنسوب إليه. ماذا يهمّك إذا كان هذا الخطاب صحيحًا أم لا؟ ما يصنع القدّيس أو الوليّ هو النفحات الإلهيّة التي يشفّ عنها حضوره فتأتي إلينا كما يخترق النور البلّور، لا صدقيّة «النبوءات» التي نقلها عنه بعض الذين ادّعوا أنّهم تلاميذه.

هذه النفحات تقذف بالبشر إلى دائرة النور ولا تحوّلهم إلى عرّافين معصومين. وأمام هذه الحقيقة الكبرى، تسقط الغيبيّات وكلّ نظريّات المؤامرة...
 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024