عن ذاكرة المسيحيين الضعيفة.. الأب باولو نموذجاً

أدهم حنا

الإثنين 2021/11/22
لا أعتقد أنَّ صلاةً واحدةً تُتلى على شرفِ افتقادِ الأب باولو، الراهب اليسوعي، في الكنائس السوريَّة التي يتسع نشاطها، لها أيُّ معنى قيمي مؤسسٌ على شرف الراهب الأكثر تقشفاً وإصلاحاً ممن رآهم مسيحيو سورية.
 
بالكاد يملك تاريخ الطائفة المسيحية في سورية بحثاً جديِّاً عن دور حركة الرهبنة. وبالكاد يمكن إيجاد أثر لحركة الرهبنة بحدِّ ذاتها اجتماعيَّاً؛ أي: خارج نطاق الأديرة وممتلكاتها، بل تبدو الرهبنة المسيحيَّة، ولا سيِّما الأرثوذكسيَّة ذات الغلبة العدديَّة بين الطوائف المسيحيَّة، أحد أكثر النماذج انغلاقاً وتشدداً. على ذلك، لا تحمل الرهبنة أيَّ شعارٍ اجتماعيٍّ، سوى ذاتيتها وتقشفيَّتها المنغلقة أساساً على الحياة، كارهةً صور البهجة وبالضرورة للعدل والاجتماع الإنسانيِّ.

في تاريخ الثورة السوريَّة، ظهر الجانبُ الدينيُّ فقط، استناداً إلى قوة الله في التدخل الطقسي والشعائري العجائبي في ما وراء البندقية؛ الدوافع الهائلة للاستنجاد بقوة الله من أجل النصر، وجعل الله مشاركاً في العارض الجزئي لحياة السوريين، وكأنَّ ضرورةَ الواقع تتجسدُ في انتظار ما يبدو إلهياً في حياة البشر، من دون أيِّ نيةٍ بشريَّةٍ تُستمَدُّ من الواقع، من أجل تحقيق حياة عقلانيَّة أو شعوراً بقيمة إنسانية صرفة بعيدة من دين الجماعة وحلمها الإلهي.

كان الأب باولو على عدم وفاق مع البُعدين الدينيين اللذين ظهرا في سورية، فإمَّا جماعة دينيَّة مجاهدة تدَّعي الأخلاقيَّة، وإمَّا دين فردي ذاتي، بالاتكاء على المأسسة الدينيَّة السلطويَّة. وفي الحالتين بتبشير بالعنف الإلهي علانيةً أو خفيةً. كان الأب باولو مؤسِّساً في سورية لحالة لاهوتيَّة ترى في الإنسان معنىً إلهيَّاً، فلم يتوقَّف منذ اندلاع الثورة عن الدعوة جهاراً إلى العدالة وإيقاف العنف من خلال ديره الذي رممه وأصلحه «دير موسى الحبشي»، الذي جعله بيتاً لإيواء كلِّ ذي حاجة. هذا الإيواء يملك معنىً ذاتياً منفتحاً على مفاهيمَ مختلفة عما يعرفه متديِّنو الشرق. إذ إنَّ الرهبانيَّة اليسوعيَّة التي تخرَّج فيها، التي تأسست من القرن الثالث عشر، جاهدت في سبيل مخيلة إنسانيَّة هائلة المعنى، لجعل كل محتاج يمثِّلُ تجسيداً للمسيح ومن الواجب تقديم المساعدة له. ومع هذه الخلفية الإيثاريَّة يوجد تنظيمٌ رهبانيٌّ عسكريُّ الطابع والإدارة؛ هذا الالتزام أجبر الأب باولو على التزام بأمر أسقفه الحازم والخروج من سورية استجابةً لتهديدٍ أمنيٍّ من النظام السوريِّ. في هذا معنى أكثر تجسداً لما ينتمي إليه باولو، ولا سيِّما أنَّ الرهبانيَّة اليسوعيَّة تدفع أثماناً باهظة من جرَّاء التزامها الخلقي بحماية أبناء المجتمع الذي توجد فيه.

الرهبانيُّ اليسوعيُّ فرَّ من التزامهِ المؤسَّسي نحو فهمه الذاتي البحت ونحو تحقق معناه الدينيِّ والفكريِّ والسلوكيِّ؛ نحو مجتمعٍ يُذبح من دون أيِّ عون، أقلَّه على المستوى الإنساني الأدنى. فقد نبذ العنف حتى وهو برفقة مسلَّحي المعارضة أو قياداتهم، ولم يستطع التخلي عن دورٍ يتخيل أنَّ من واجبه القيام به وحتى لو واجه تنظيم داعش. ما لم ينتبه إليه باولو هو طبيعة النظام السوريُّ الذي واجهه منذ البداية. 

إنَّ الخيرَ المطلق واللامحدود، لا يملك مكاناً في مجتمع لا تُصاغ أيُّ عادةٍ من عاداته على نزعة سلمية. ورغم ثقافة باولو العظيمة، لكن فاته أنَّ الموت من أجل الفكرة أو التضحية بالذات من أجل العقلنة ليسا أمرين جادَّين، ولا يملكان تعاطفاً قيمياً حتى. 

يُمكن بالتنبؤ فهم السوريين بعد موت باولو، فلا يبرز باولو بوصفه قيمة كبرى لدى المعارضة، ولا حتى لدى مؤسسات النظام بوصفه استثماراً للتعبير عن وحشية تنظيم داعش مثلاً؛ إذ ابتعد عنه وعن ذكره تماماً لكي يُحافظ على شكل من العنف المحمي بالتقليد الاجتماعيِّ والتقبل الجرمي لأنَّ منحة العنف المفتوحة، تجعل تنميط المجتمع أيضاً بأدوار محددة يكون فيه القتل والاستعداد له واجهةً مُثلى لفهم ما يجري في سورية وقبوله. وكما أنَّ النظام يقتل معارضيه، تقتل المعارضة معارضيها، حتى لو كان ثمن المعارضة حواراً. وبالتأكيد لا يمكن فهم النظام بنفس آلية المعارضة، لكن شبح التغييب القيمي مُتداولٌ بين الطرفين وبالتالي مُتداولٌ اجتماعياً.
الأكثرُ إلحاحاً ولفتاً لأنظارنا هو مشهد أخت باولو في كل الفيديوهات المطالبة بمعرفة مصيره؛ ذلك الاحتضان الطفولي للصورة، والحديث إلى العدسة كأنها من لحم ودم، والاعتياد على المناجاة والخطاب، كان يملكه أيضاً باولو العفوي المؤمن إيماناً يملك صوتاً إنسانيَّاً واجتماعيَّاً، من دون أيِّ استعلاء مؤسسي أو سلطوي ديني، ومن دون طمع في موقع العظمة والإنجاز؛ بل كان فقط خطاباً أخوياً شفهياً. 

سيكون يوم اختفاء باولو من كلِّ عام درساً متأمَّلاً فيه لعدم الخفاء، بل تأمُّلاً في شكل ديني يكافأ بوصول راهب يسوعي آخر إلى عظمة الإنجاز السلوكيِّ الدينيِّ؛ أي: وصول البابا فرنسيس إلى سُدة البابوية في روما بعد سبعةِ قرون من العمل في الرهبانيَّة اليسوعيَّة. قد يكون هذا إنجازاً لإصرار الطائفة على الموت والحياة في مكمن واحد، ومن هنا يصلح باولو لتوكيد عظمة سورية في جعلها راهباً يفني ذاته ليؤكِّد رسالة إيمانيَّة اجتماعيَّة. وفي ظلِّ الدروس الجيدة من الطوائف المسيحيَّة داخل سورية، والسلوكيات الدينيَّة الإيثاريَّة الهوسيَّة، شكَّل باولو حالة قداسةٍ هائلةَ المعنى. يملك باولو تأثيراً هائلاً، لكنه فردي بحت، فلا محاولات جادة لاستنطاق حتى الحركات الدينية مقارنة بحلم باولو بسورية مختلفة آمنة ومحبة وصالحة اجتماعيَّاً وسياسيَّاً. وما تبقى منه ليس إلَّا ذكرى من عرفوه وعاينوا تجربته جيداً، لكن في وقتٍ ما من الرشد العقلاني، سيكون لباولو متسع من الوقت للدرس والتثقيف في شرقٍ لمْ يرَ حتَّى الآن رجلَ دينٍ إيثاريّاً إلا بوصفه خادماً لسلطةٍ قامعةٍ أو قاتلة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024