مشكلة سعد الحريريّ هي سعد الحريريّ

أسعد قطّان

الأحد 2021/02/07

مشكلة سعد الحريريّ هي سعد الحريريّ حتّى يَثبت العكس. حين أعلن الرجل أنّه المرشّح «الطبيعيّ» لرئاسة الحكومة، تذكّرنا خطاب خصمه السياسيّ عن الجينات، وأدركنا أنّ الرجل لم يتعلّم شيئاً من انتفاضة ١٧ تشرين. بالنسبة إليه، البلد بعد الانتفاضة هو إيّاه قبل الانتفاضة، ما خلا وجود أزمة اقتصاديّة لا يحلّها إلاّ هو بفضل شبكة علاقاته الدوليّة الواسعة وقدرته الاستثنائيّة على التسوّل. كلّ الزهد بالحكم الذي أبداه سعد الحريريّ طوال ما يقارب السنة كان مجرّد تشاطر على الناس وعلى خصومه. والحقّ أنّ التشاطر أثمر تكليفاً ثانياً. عاد سعد الحريريّ ممتطياً حصانين: حصان الثورة التي جندلت «صديقه» القديم، ثمّ خصمه السياسيّ، جبران باسيل ومرّغت سمعته السياسيّة بالأرض، وحصان المبادرة الفرنسيّة التي هي مزيج من طوباويّة الفلاسفة والشعراء لدى وريثهم إيمانويل ماكرون وحلم الأمّة الأوروبيّة العظيمة بأيّامها الخوالي.

لا شكّ في أنّ سعد الحريريّ يعاني اليوم من هجمة خصومه الشرسين والذين يتقنون التصويب عليه. رئيس الجمهوريّة يستحثّ النوّاب على تحكيم «ضمائرهم» وعدم تكليفه بتشكيل الحكومة. جبران باسيل لا يستأمنه وحيداً على الإصلاح. حزب الله يريده مطيّةً لاستجلاب بعض الدولارات إلى البلد، فيعطيه التكليف ويحلبه، هذا إذا نجح في المهمّة المستعصية. وإذا فشل، يتحمّل وحده مسؤوليّة الفشل. ولكنّ حصر مشكلة الحريريّ في خصومه هو توصيف لنصف المشكلة وتجاهل للنصف الآخر، النصف الذي يتوارى خلف الصمت ولا يحكي عنه أحد كأنّه سرّ من أسرار المجوس.


تتلخّص مشكلة سعد الحريريّ بحكاية كنّا نسمعها ونحن أطفال حتّى انطبعت في ذاكرتنا: حكاية الكذّاب الذي أمعن في الكذب. وحين قرّر ذات يوم أن يقول الحقيقة، لم يصدّقه أحد. هذا ليس اتّهاماً للرجل بالكذب، بل هو استحضار للآليّة السيكولوجيّة التي تومئ إليها الحكاية. لقد سوّقت البروباغاندا الحريريّة للشيخ سعد بوصفه السياسيّ المرن الذي يعقد مع خصومه التسوية تلو التسوية في سبيل مصلحة البلد. ولكنّ الوجه الآخر لهذه السرديّة هو رجل يعقد الصفقة تلو الصفقة لاقتناعه بأنّ القبض على ناصية الحكم هو وحده ما يتيح له المحافظة على شعبيّته. ولكنّ الحريريّ يدفع اليوم غالياً ثمن هذا السلوك مرّتين: مرّةً لأنّه لا يريد أن يلعب لعبة المعارضة حتّى النهاية. فهو لا يتقن المعارضة مثل كمال جنبلاط، ويفضّل، بعقليّة رجل الأعمال، التسويات المضمونة على المعارك المفتوحة. ومرّةً أخرى لأنّ أحداً لا يصدّقه حين يعلن أنّه لن يذهب إلى تسوية جديدة، وذلك في استعادة للحكاية التي نحتت وعينا لمّا كنّا بعد أطفالاً. فلقد أثبتت التجربة التاريخيّة أنّ الحريريّ تعوّد أن يبرمج خطواته لا استناداً إلى ثوابت سياسيّة تحتكم إلى الأخلاق، بل على وقع الحسابات في الإقليم. والكلّ يعرف أنّ هذه الحسابات مطّاطة، متقلّبة، ومعرّضة للانزياح.


بكثير من حسن النيّة نقول: لقد آن الأوان ودقّت الساعة. آن الأوان أن يختلي سعد الحريريّ إلى نفسه، ودقّت الساعة أن ينكبّ على تفحّص سير رجالات الدولة الكبار في لبنان: رياض الصلح، فؤاد شهاب، كمال جنبلاط، ريمون إدّه، غسّان تويني، فؤاد بطرس. ولو أحبّ، يستطيع أن يعرّج على رفيق الحريريّ. وعليه أن يقوم بهذه الخلوة منفرداً، بعيداً من مستشاريه الجهابذة، وفي منأىً عن النساء والرجال الذين يبوّقون له ويحاولون إقناع الناس بأنّه المنقذ، وبأنّه رجل الدولة الوحيد في هذه الجمهوريّة المتهاوية.


الخيط الرفيع الذي يجمع بين كلّ هؤلاء، أو فلنقل معظمهم، على اختلاف مقترباتهم السياسيّة، هو أنّهم كانوا في غالبيّة الأحيان، حتّى لا نقع في التعميم والمغالاة، قادرين على التمييز بين مصلحتهم الشخصيّة ومصلحة الوطن. ومشكلة الذين يراقبون سعد الحريريّ بشيء من الموضوعيّة هي أنّهم لم يرصدوا عند هذا الرجل بعد خطّاً بيانيّاُ واضحاً يفصل بين ما هو ضروريّ لإنقاذ البلد الآن وهنا، وبين ما يسهم فقط في تزخيم تيّاره السياسيّ ورفع معنويّاته. لقد أدرك الحريريّ أنّ انتفاضة ١٧ تشرين كانت اللحظة التي تؤذن بتخلخل كلّ شيء، ولا سيّما بانكسار الجرّة مع رئيس الجمهوريّة وصهره النابغة، فكسرها. ثمّ راح «يحرق» المرشّحين لترؤّس الحكومة الواحد تلو الآخر. وبعد ذلك زيّنت له نفسه أنّه يستطيع أن يتحايل على من أبرم معهم تسويةً في الأمس وأن يعود منتصراً إلى السراي الكبير. هو، مثل خصومه، ما زال يتصرّف وكأنّ شيئاً لم يتغيّر بعد ١٧ تشرين. ويتعزّز هذا الظنّ لديه حين يطلق بعض مناصريه في بيروت وطرابلس النار ابتهاجاً بعودته رغم الانهيار الذي كان هو شريكاً في صنعه عن قصد أو عن غير قصد. في كلّ هذا المسار، يبدو سلوك ابن رفيق الحريريّ مجرّد مرآة لمصلحة سياسيّة ضيّقة وإيذاناً بالانهيار الماحق للسنّيّة السياسيّة وفشلها في اجتراح أيّ فكرة إنقاذيّة من خارج علبة الصغائر السلطويّة التي تختبئ خلف شمّاعة الطائف.


يتّضح اليوم أنّ سعد الحريريّ لم يقرّر بعد الانسحاب والاعتذار عن عدم قدرته على تشكيل الحكومة، وكأنّي بالرجل لا يعيش إلاّ حين يحصد الهزيمة تلو الهزيمة. ولكنّ الوقت «يطلع من البيارة» كما تقول فيروز. والوقت اليوم هو وقت طرابلس الثكلى، ووقت دم لقمان سليم الذي ما زال ساخناً. أين الشيخ سعد من كلّ هذا؟ أين هو من تصفية أحرار الثورة اللبنانيّة التي يبدو أنّها بدأت، هذه التصفية التي تثبت أنّ الانتفاضة كانت على حقّ، وأنّها قويّة اليوم بالذات رغم أنّ كثراً جَزَموا بخبوّ بريقها، وأنّ كلّ من يطعنها يحدس بأنّ نهايته باتت وشيكة. هل ما زال الشيخ سعد يراهن على حكومة تتشكّل بضغط حزب الله على جبران باسيل؟ أليس الأجدر به أن ينسحب؟ أليس الأجدر به أن ينصرف إلى خوض المعركة الوحيدة التي تستحقّ أن تُخاض والتي لم يخضها حتّى اليوم، معركته على الفاسدين من بطانته وعلى الذين يتحالف معهم، أو يهادنهم، من المجرمين والقتلة بحجّة أنّ «اللحظة» الدوليّة المناسبة لم تحن بعد.


ولكن هل يخرج الإنسان من جلده؟ وهل يتغلّب التطبّع على الطبع؟ مشكلة سعد الحريريّ هي سعد الحريريّ ... حتّى يَثبت العكس.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024