المخرجة هند بوجمعة لـ"المدن":هذه ليست نسوية بل تجربة إنسانية

محمد صبحي

الثلاثاء 2020/07/28
تمشي نورا (هند صبري) في مغسلة المستشفى حيث تعمل، في فمها علكة تمضغها وتطلق نداءات شبحية، ثم تصطدم خطأ بكوب قهوة ينسكب على الملاءات البيضاء الثلجية. الإجهاد هو ما يميَّز حياتها، كما يوضَح مشهد البداية هذا على الفور. نورا أم لثلاثة أطفال، ووجدت الحب في أحضان الأسعد (حكيم بو مسعودي)، لكنها ما زالت متزوجة من جمال (لطفي العبدلي)، المسجون بتهمة السرقة. قبل أيام من حصولها على حكم بالطلاق، يُفرج عن زوجها فجأة بعفوٍ رئاسي لتجده واقفاً أمامها في عملها. يمكن قراءة الرعب في عينيها.


تضطر نورا للعب دور الزوجة المستسلمة لرجل يثير اشمئزازها وخوفها من أجل حماية الأطفال الثلاثة. وهنا يصل الفيلم إلى ذروته الدرامية، حين يعود جمال برقّة مَن يطلب الوصال، قبل أن يعاوده غضبه العنيف، حين يكتشف سرّ امرأته التي تخطط للهرب مع حبيبها. في تونس، يُحكم على الزوجة الخائنة بتهمة الزنا بالسجن خمس سنوات، لكن جمال يفضّل أن يلعب دور القاضي المتحكم بمصير نورا بدلاً من إبلاغ الشرطة بخيانة زوجته. الأسعد، الحبيب، من ناحية أخرى، يخبرها بما يمكنها وما لا يمكنها فعله. في منتصف المبارزة الرجالية، تبدو نورا للرجلين شيئاً تابعاً لا إنساناً حقيقياً، ذريعة مناسبة لإظهار السلطة. وفيما ينغمس الرجلان في لعبتهم الذكورية، كما يدخل فساد الشرطة على الخط، تصبح نورا غير مبالية أكثر فأكثر. لا نهايات سعيدة مع هؤلاء الرجال.

معضلة نجاة النساء تحت سقف النظام الأبوي القمعي ليس موضوعاً جديداً على المخرجة البلجيكية التونسية هند بوجمعة. كانت بوجمعة قد تجاوزت الأربعينات حين أخرجت فيلمها الأول. تقول إن ثورة الياسمين في تونس، وطن والدها، هي التي دفعتها إلى الكاميرا. "كانت تلك لحظة تاريخية، وكان عليّ أن أخرج إلى الشارع للتصوير". هكذا، أنجزت فيلمها الوثائقي "يا من عاش" (2012)، الذي تابعت فيه نضال أم عزباء من بيئة فقيرة وإجرامية كان للثورة معنى مختلف تماماً بالنسبة لها، وقدّمت في الآن ذاته نظرة متشككة على مدى التغيير الذي أحدثته الثورة التونسية في مآلات حياة الطبقة الدنيا في البلاد. بعد عامين، حوّلت اهتمامها للسينما الروائية فأنجزت فيلمها القصير "فتزوج روميو جولييت" (2014)، وهو عن الحب في زمن القمع.

فيلمها الأخير "نورا تحلم"*، لا يبتعد عن انشغالها بالاجتماعي، وتحضّر فيه أيضاً قصة حبّ بحسابات معقّدة، لكنها لا تحكم على هذا الحب، ولحسن الحظ نورا ليست مثالية أيضاً. في قلب تلك التراجيديا التونسية المعاصرة، لا تأتي البطلة كـ"امرأة قوية" مبتذلة، لكن امرأة من لحم ودم، تحاول العثور على شقوق في بيئة مغلقة حيث يمكنها الزحف بينها والانعتاق. تجد نورا نفسها بطلة معضلة إغريقية مضطرة للمفاضلة بين أطفالها أو خيانة حبّها. الخروج من تلك الحال لا يخلو دائماً من الأذى المصاحب، لكن نورا تُظهر أن عدم فعل شيء هو أسوأ الاختيارات.

"المدن" التقت المخرجة هند بوجمعة للحديث عن فيلمها فكان هذا الحوار.



- بدأت مسارك المهني كمخرجة متأخرة بعض الشيء. كيف قادك فيلمك الروائي الأول إلى قصة "نورا تحلم"؟

لست مخرجة في الأساس. عملت في مجالات السينما التقنية كالأزياء والمؤثرات الصوتية، ولي محاولات سابقة في كتابة السيناريو، لكن نقطة الانعطاف حدثت حين بدأت الثورة التونسية وخرجت إلى الشارع أحمل في يدي كاميرا لأول مرة في حياتي. صوَّرتُ كثيراً، بدافع الفضول والرغبة في المعرفة. ثم قابلت بطلة فيلمي الأول في المظاهرات: امرأة فقيرة تعيش في الشارع مع أطفالها، وتبحث عن بيت. عرضت ما صوَّرته على منتجين وأصدقاء، وأدركت أن صناعة الأفلام قدري الذي تعثّرت به متأخراً. هكذا، درست وتعلّمت السينما على مشارف الأربعين، وأنجزت في العام التالي فيلمي الوثائقي "يا من عاش".

خلال الوقت الذي قضيته مع الشخصية الرئيسية في فيلمي الأول، قابلت جميع أنواع الناس: عاهرات، لصوص، قتلة. لمستني حياتهم. قد لا يكونون صادقين أو لطيفين دائماً، لكن الحقيقة التي استوقفتني هي أن الحياة في البيئات الأفقر اجتماعياً أكثر صعوبة للنساء منها للرجال. من ناحية أخرى، فإن الصورة التي نمتلكها عن "أولئك الناس" غالباً ما تكون أحادية البعد. كما لو أنهم ليسوا بشراً. كلما تعرَّفت عليهم بشكل أفضل، كلما بدأ ذلك الانطباع يزعجني أكثر. البشر بشر، أحياناً يصبحون سيئين وأشراراً، لكنهم يظلّون بشراً.

في مرحلة ما، اكتشفت وجود "قانون الزنا" في تونس، لأنه كان على صديقة لي أن تتعامل معه. كانت انفصلتْ عن زوجها لبعض الوقت، وفي هذه الأثناء بدأت في علاقة مع رجل آخر. زوجها أيضاً دخل بدوره في علاقة مع امرأة أخرى، لكنه أصبح غيوراً وأبلغ عنها بتهمة الزنا. ونتيجة لذلك، ذهبت هي وعشيقها إلى السجن لمدة ثلاثة أشهر. هذا القانون، بالطبع، هراء تام. لا يجب أن نذهب إلى السجن لأننا نحب شخصاً ما. كل هذه الأشياء معاً ألهمتني كتابة "نورا تحلم"، لأن للمرأة الحق في أن تكون سعيدة.


- بالتأكيد لكل شخص الحق في أن يكون سعيداً، لكن ألم تخشي التطرق لمسألة خيانة الزوجة باعتبارها اختياراً للسعادة؟

هناك ثلاثة أعداء للسعادة. العدو الأول هو نحن. لدينا القدرة على اتخاذ قراراتنا الخاصة وعدم الاهتمام بما يعتقده الآخرون عنا. العدو الثاني هو الأسرة. والعدو الثالث هو المجتمع. لذا في كل مرة، يتعيّن عليك، كامرأة، تريد تغيير شيء ما في حياتك، أو تقرر شيئا مهماً، يجب عليك دائماً مواجهة هذه العقبات الثلاث. في بعض الأحيان تكون أنت أول عقبة منيعة للتغيير. في هذا الفيلم، تمرّ نورا بهذه الخطوات. لقد قررت اختيار سعادتها، على الرغم من نفسها، على الرغم من عائلتها.

حرية الحُبّ مهمة. للمرأة بقدر ما هي للرجال. لكن يُنظر إليك بشكل مختلف حين تكون رجلاً متزوجاً على علاقة بامرأة أخرى، لا حين تكون امرأة متزوجة لديها علاقة غرامية برجل آخر. يقال إن للمرأة كل الحقوق، أن لا مشكلة في ما تفعله النساء، ولكن هذا ليس صحيحاً. تُقاس أفعال النساء بشكل مختلف. هناك نوع من النفاق المجتمعي في الغفران لرجل على علاقة بامرأة غير زوجته، والرفض العنيف الذي تُواجه به امرأة فعلت الامر نفسه.


- وهذا، بالمناسبة، ليس مقتصراً فحسب على العالم العربي...

بالطبع. أعتقد أن الخيانة، بالنسبة للمرأة، تمثل مشكلة غربية أيضاً. حتى في السويد، أو في الشمال، أو في البلدان الأكثر تقدماً، فإن الأمر ليس هو نفسه [بالنسبة للرجال]. هناك شيء غير عادل بين [كيف نفكر في] رجل لديه عشيقة وامرأة لديها حبيب. لهذا السبب هذه القصة أكثر عمومية. إنها تبدأ في تونس، في بلدة صغيرة، لكنها مشكلة عالمية. ببضع تعديلات، يمكننا نقل القصة إلى أي مكان حيث يمكن تدمير أحلام المرأة بمزيج من الإكراه الذكوري والتواطؤ المؤسسي.


- لكن يظل الأمر حسّاساً في النطاق العربي. البعض قد يعتبر فيلمك صادماً ويمثّل خروجاً على العادات والتقاليد مثلاً.

هذا نقاش خاطئ. الواقع سيئ، والسينما ليست مهمتها تجميل الواقع. الحقيقة أن ما جاء في الفيلم نسخة ملطَّفة مما تتعرَّض له نساء كثيرات بحجة العادات والتقاليد. اغتصاب الزوجة جريمة وليس تقليداً، إرهاب الأبناء والزوجة جريمة وليس رجولة. في الفيلم، ربما الزوج هو من بدأ الخيانة، بخيانة اتفاقهما على تأمين حياة شريفة وطبيعية، حين احترف السرقة ثم دخل السجن وتركها لرعاية أبنائهما الثلاثة.

ربما علينا النظر بعين أكثر إنسانية تستوعب اختيارات الآخرين في ضوء تجربتهم وخبراتهم هم لا أحكام وتقديرات أشخاص مختلفين لم يختبروا الظروف نفسها. لكن، في نهاية الأمر، ليس بمقدورنا تغيير المجتمع، ولا بمئة فيلم مثل فيلمي. أقصى ما يمكن أن يفعله فيلمي فتح نقاش، لكننا نريد أولاً مجالاً يشجّع على التفكير. التغيير يأتي بعد ذلك، بعد سنوات طويلة، تتضافر خلالها أفكار الملايين وتتكامل لخلق وضع أفضل لا نكون مضطرين فيه للجدال حول الرضا بعيش حياة مؤذية لأنها تتوافق مع العادات والتقاليد.


- كيف وقع اختيارك على هند صبري لتأدية شخصية نورا، وكيف ساعد ذلك الاختيار الفيلم؟

بعد انتهائي من الكتابة، بدأت التفكير في الممثلة التي ستتولى تجسيد نورا. فكّرت في أكثر من ممثلة، وكانت هند من بينهن. لكنني خشيت إسناد الدور إليها من دون إجراء "اختبار أداء"، الأمر الذي عرفت لاحقاً أنها لم تقم به من قبل قط. نحن نتحدث عن نجمة سينمائية، ليس في تونس فقط بل في العالم العربي كله، وبقدر ما أريد إسماً ثقيلاً لبطولة فيلمي الأول، يجب مراعاة ألا يأتي هذا على حساب مصداقية تجسيد الشخصية على الشاشة. لكن، وللمفاجأة، وافقت هند على الاختبار. بعدها، تبددت مخاوفي حول نجاحها في تأدية الدور وقدرتها على خلع "بيرسونا" النجمة.

أثناء التحضير للفيلم، تناقشنا كثيراً، وتشاركنا الكثير من تجاربنا الشخصية، وحظينا بتلك اللحظات الخاصة التي فيها يكفي أن تنظر إحدانا للأخرى لتبدأ دموعنا في النزول في توقيت واحد. 

 إنها ممثلة من ذلك النوع الذي يشارك بالفعل في المشاريع التي تختار قبولها، وهي فضولية للغاية. تراقب كل شيء. هناك جاذبية قوية بشأنها كإنسانة، كامرأة، كممثلة. لدينا الحساسية نفسها. اكتشفنا أن لدينا النهج نفسه تجاه القضايا الاجتماعية، ووضع المرأة بشكل عام، في تونس، والعالم العربي. لدينا الكثير من التقارب والتواصل بسهولة، والاحترام المتبادل. حتى إن كانت لدينا وجهات نظر مختلفة، نتناقش. من المهم بالنسبة لي التعامل بهذه الطريقة مع جميع الممثلين.

كل ذلك سهّل كثيراً من مهمتنا في تعميق شخصية نورا وتجسيدها بالشكل الذي خرجت عليه. حين تتعاون مع ممثلة ذكية ولديها أفكاراً قوية، عليك الاستفادة من هذا، استخدامه. مثلاً، قرّرنا التخفُّف تماماً من ماكياج نورا، باستثناء المرة الأولى التي التقت فيها حبيبها.


- في هذا الفيلم، تظهرين مدى اختلال العلاقة التي لا تقوم على المساواة. هناك مشاهد مكثفة وعنف يجري خارج الكاميرا. ما هي استراتيجيتك لتصوير هذا؟

الكيفية التي صوّرت بها العنف الجنسي في هذا الفيلم كان لها غرضان. أولاً، أردت إزعاج المشاهد. لكني أردت أيضاً التأكد من أن الرقباء في العالم العربي ليس لديهم سبب لحظر الفيلم أو تغييره. كان من المهم جداً لي أن يُعرض الفيلم في العالم العربي، حتى يفكر الناس في المساواة بين الرجل والمرأة. وبالتالي، لن يكون الأمر مبتذلًا فحسب، بل سيؤثر أيضاً على تصوير العنف بشكل صريح للغاية. حاولت خلق إتزان والبعد عن كليشيهات العنف الزوجي، حيث يمكن للجميع توقع أن يضرب الزوج زوجته، أو أن يمتلئ الفيلم بالصراخ. نحن، كمشاهدين، واقعون تحت تأثير خبراتنا الفرجوية، وفي تلك الحالة سيكون مجانياً للغاية أن أقدّم للمتفرجين ما يتوقعوه مسبقاً. يجب أن تفاجئهم القصة. إنهم بحاجة إلى شيء آخر. إنها حقيقة الكائن البشري: جميعنا يذخر بالمفاجآت ولا يمكن التنبؤ به. كان من السهل إظهار العنف، لكن الشخصيات أكثر تعقيدًا. البشر أكثر تعقيداً من ذلك.

من ناحية أخرى، هذا النهج يعطي المتفرج فرصة للمشاهدة الفعّالة. لأن هناك عنفاً صامتاً يجري في تلك العلاقات وبوتيرة أكثر دواماً واستمرارية، عنف يومي سيكون من المبتذل اختزاله في صوره المادية الصريحة. أعلم أن هناك مَن سيشاهد الفيلم، رجلاً كان أم امرأة، ويقول "ولكنه لم يضربها، ولكنه لم يشوّه وجهها، ولكنه لم يلكمها ويسيّل الدماء على وجهها"، وهذا جزء مما يحاول الفيلم اللعب معه والتفاوض بشأنه: ما حدود العنف الزوجي، وما المدى الذي على المرأة قبوله، ومتى يصبح الأمر غير محتمل؟ كل هذا ذاتي للغاية، فلكل منّا خصوصيته ومعاييره. الاكتفاء بالصور الكبيرة للعنف يشوّه الصور الأخرى الأكثر شيوعاً والأطول بقاء. العنف يمكن أن يكون إجبارك على النوم في سرير واحد إلى جوار شخص يثير اشمئزازك.

- هذا يأخذنا إلى نقطة مثيرة للاهتمام: قصة فيلمك من السهل جرّها إلى مناطق سيئة سينمائياً، في ضوء أن أغلب الأفلام العربية التي تلقى رواجاً دولياً تتركز حول الانتهاكات العنيفة، اجتماعياً وسياسياً. كيف تتعاملين مع ذلك كسينمائية؟ 

أفهم ما تعنيه تماماً. أنا نصف بلجيكية ونصف تونسية. وتونس بلد حديث للغاية، هناك حرية حقيقية في الكلام هنا. بالطبع، هذا مختلف تماماً في بعض البلدان العربية الأخرى. في فيلمي حاولت الابتعاد ما أمكنني عن استغلال القصة لتقديم بكائية أخرى عن "معاناة النساء في العالم العربي" أو أي عنوان آخر كبير يجتذب الممولّين والمهرجانات الدولية. أردت أن تكون نورا امرأة قوية، وليس امرأة تكره نفسها. لم أرد امرأة بائسة أو ضحية فقط. هي ضحية بالطبع، لكنها ضحية النظام الكبير، قراراتها، خوفها.

 الشيء المزعج هو أن أوروبا تملك صوتاً واثقاُ حين تقول أن المرأة العربية ضحية للقمع، وهذا صحيح، لكننا في أوروبا يبدو أننا ننسى أن المشكلة نفسها تنطبق علينا، فالتوجه بإصبع أوروبي إلى الشرق الأوسط هو مجرد طريقة لقول أننا أفضل، ولكننا لسنا كذلك في الواقع. حتى في أوروبا، لا تزال النساء غير متساويات مع الرجال. هذه ليست نسوية، بل حقيقة. لكن هذه ليست الطريقة التي أقدِّم بها أفلامي. أنا فقط أشعر بالفضول حيال الناس. هذا هو دافعي لهذا الفيلم. يجب أن يأتي الفيلم من الشخصيات. تلك الشخصيات تعيش في سياق: بلد، عائلة، وليس في "وضع سياسي".


- إذن بالنسبة لك، "نورا تحلم" هو تحقيق إنساني في وضع الشخصيات أكثر من كونه بياناً سياسياً؟

الفيلم، أي فيلم، سياسة. لذلك، بالطبع، أودّ أيضاً أن أضع الموضوع في دائرة الضوء. أفعل ذلك من خلال الكشف عن هذه القصة الإنسانية ومواقف وحالات الشخصيات، من خلال الفيلم. هذا يتضمن أيضاً بالطبع إحداث تغيير، لتغيير هذا القانون، على سبيل المثال. وهذه المرة فعلت ذلك في تونس، لكن يمكنني أيضاً فعله في بلجيكا، في فيلم قادم ربما.


(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024