شحاذو المعجزات.. والبياض

وجدي الكومي

السبت 2017/08/12
"فأن تكون أبيض يعني أن تملك ساعات وأحذية ونظارات شمسية، وسيارات وأجهزة راديو كالبيض". 

يعالج الروائي الروماني قسطنطين فيرجيل جيورجيو في روايته "شحاذو المعجزات" المنشورة عام 1958، وصدرت ترجمتها هذا العام إلى العربية، قضية العنصرية التي عانى منها السود في الولايات المتحدة الأميركية وأفريقيا منتصف الخمسينات وأوائل الستينات، وكذلك الاستعمار الأوروبي الذي كان يتلكأ في الخروج من أفريقيا بعد ويلات الحرب، وإصرار هذا الاستعمار على المضي قدما في مص دماء الشعوب، رغم تجربة الدول الاستعمارية النازية والفاشية الإيطالية وما فعلتاه في أوروبا نهاية الثلاثينيات ومنتصف الأربعينيات.

يبدأ قسطنطين روايته "شحاذو المعجزات" بمشهد لبطله الأسود "ماكس أومبلينت"، الذي يجلس مع الأوروبي "ستانيسلاس كريتز" في مقهى بمدينة أفريقية متخيلة "تروبيك" عاصمة لمستعمرة أوروبية، مساحتها تعادل مساحة سويسرا. يعرف أهل المدينة أن الرجلين قدما لتصوير الحيوانات البرية، لكن هدفاً آخر وراء رحلتهما يتكشف رويداً رويداً بعد صفحات، وهو أن ماكس جاء لقتل أربعة شبان، يعملون في التبشير وسط قبائل أفريقية "همجية" من آكلي لحوم البشر، ولكن هل هذا كل شيء؟ هل هذه هي حبكة الرواية الأساسية؟

يتخذ جيورجيو من "الحرب الباردة" وسيلة لصنع قاعدة رواياته، ففي الوقت الذي استعرت فيه هذه الحرب بين الشرق والغرب، بدأ داخل الولايات المتحدة صراع آخر بين البيض والسود، وانطلقت أسئلة تحرير الإنسان، وتجريم التمييز بين البشر بحكم لون بشرتهم. تدور الرواية على هذه الثيمة، التفريق بين الأبيض والأسود، الأبيض بما يمثل من هيمنة، واستعمار، وسيطرة، والأسود المقيد المأسور والذي فشلت الإنسانية في أن تعتقه، على الرغم مما قاسته من ويلات في الحرب. بهذه الفكرة عانى ماكس أومبلينت الذي ينتمي لعائلة أميركية ثرية، لكن ثراءها لم يتغلب على لونها الأسود، فكانت صدمة الأسرة حينما ارتبط ماكس بفتاة بيضاء، تسببت وأخوتها الشرطيين في خصي "ماكس". وحينما نظرت المحاكمة في جريمتهم، برّأتهم، بعدما تواطأ الشهود، والقاضي. يقول جيورجيو السارد وهو يصف مشهد المحاكمة الهزلية: "لون البشرة كاف وحده للقتل من دون محاكمة، طالب محامو ماكس بإيقاف المجرمين، فيما رد محامي الشرطيين: بتر عضو رجل أسود وحرمانه من سنتيمترات من اللحم ليس جريمة قتل".

الجميع في الرواية يشهد على أن ماكس وبلانش لم يأتيا لتناول الغذاء في الفندق يوم وقوع الجريمة. يصف جورجيو القاضي بقوله: كان نحيلا يُقرأ الفساد على وجهه ذي العظام الناتئة، إن سلالة البِيض أنجبت عديد الفاسدين مثل هذا القاضي.

أما الفتاة بلانش كنور التي كانت خطيبة ماكس فعلاً، وترددت على منزل أسرته أكثر من مرة، فهي تشهد بكل جرأة أنها لم تتحدث إليه من قبل، ولا تعرف منزله، ولم تتردد عليه، كما أن جيران ماكس أنفسهم خافوا أن يشهدوا بذلك: "ما من مواطن في هذه المدينة يجرؤ على قول الحقيقة، فمواطنو المدينة كلهم تقريباً شاهدوها تدخل إلى منزل عائلة أومبيلينت ومع ذلك يلتزمون الصمت لأنهم جبناء، ويخشون الاعتراف".

ينسى البِيض أن السود شاركوا إلى جانبهم في الحرب العالمية الثانية، وتلقوا وعوداً بالمساواة مع البيض، لكنها كانت مجرد حبر على ورق. يدمن ماكس الخمر، ويواجه وحيداً آلام الخصي والعزلة والاحتقار. يفكر في أن ينفي نفسه، فتأتيه النجدة عبر "صوت موسكو"، حينما يذيع أحدهم قضيته، ويتحدث عنها، ويدين الظلم الذي تعرض له. وفي نوع من الكيد السياسي، تتبنى روسيا قضية ماكس، فيذهب الأخير إلى موسكو حيث يلتقي "ستانيسلاس كريتز"، وهنا تتخذ الرواية منعطفا أكثر سخونة، وسخرية. يترأس "كريتز" ما يصفه جيورجيو بـ"دائرة شؤون السود"، وعبرها يقنع ماكس بضرورة الثأر لنفسه، عبر ارتكاب جريمة قتل، لتحرير السود. لكن جريمة القتل لن تستهدف الفاسدين الذين شهدوا ضده، بل تستهدف أربعة شبان يعملون في التبشير في أفريقيا، ويقنع كريتزا ماكس بأن الجريمة ستنجح في إخراج السود الأفارقة إلى دائرة الحداثة. يقول له: "هل يمكن أن تتخيل حصول آكلي لحوم البشر على دولة مستقلة" هذا مستحيل طبعاً، يجب أولاً أن نعيدهم إلى التاريخ، وأن نجعلهم يعيشون الساعة نفسها التي يعيشها السويسريون والهولنديون. يحدثه كريتزا عن طرد القوى الاستعمارية من تروبيك، لكن "ماكس" يقاوم، ويرفض الرحلة، والمهمة، ثم يقبل في النهاية.

في تروبيك حيث ذهب الرجلان، يضاعف جيورجيو من نبرة السخرية في العمل، تتكشف خطة "كريتزا" أكثر، عملية قتل المبشرين البِيض، ستنجم عنها عمليات ثأر دامية، سيتم تصوير الجنود الأوروبيين بينما يرتكبون المجازر في المستعمرات، عدسات الكاميرات لا تنتقل أبداً لتصوير مجزرة، لكنها ستفعل هذه المرة في حق السكان الأصليين. سيرى العالم الأوروبيين بينما يطاردون السود ويقتلونهم، سيلحق العار بأوروبا، هنا يرتفع صوت جيورجيو السارد، بينما يقول: أوروبا تقتات من هيبتها كمهد للحضارة والعدالة والإنسانية، ولا أعتقد شخصياً بأن الأوروبيين جنس سامٍ، فموهبتهم لا تتعدى المجال الاقتصادي. ترتفع نبرة الروائي على ألسنة أبطاله، لتمنح العمل مبرره ورسالته المبطنة، إدانة استعمار الشعوب بعضها لبعض، وإذلال بعضها البعض.

أكثر مواضع العمل سخرية، تلك التي يوهم فيها "ماكس أومبيلنت"، السود من أبناء قبيلة آكلي لحوم البشر، بأنه قادر على تحويلهم إلى بِيض، يطالبه ساحر القبيلة بإحياء الموتى، فيسخر منه ماكس قائلاً: بإمكان أي أبيض أن يقتل رجلاً في مستشفيات البيض، كي يخلصه من ألمه، ثم يحييه، فإحياء الموتى معجزة صغيرة، ولا توجد إلا معجزة حقيقية واحدة، أنا الوحيد القادر على صنعها، أنا قادر على جعل السود بيضاً، هذه هي المعجزة الكبرى.

كل رجل أسود يتمنى أن يصبح أبيض، أن تكون أبيض بالنسبة لآكلي لحوم البشر مرادف لركوب القطار، ولبس أحذية مطاطية، أن تكون أبيض يعني أن تكون حراً، أن تكون إنساناً، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يتمنونه، أن يكونوا بشراً، أي شبيهين بالرجل الأبيض.
يقبل آكلو لحوم البشر تنفيذ أوامر ماكس، يقتلون المبشرين الأربعة، كما يصطادون التماسيح، فيرسل حاكم الاقليم قواته لقتل السود، وتتناقل أخبار المجزرة الصحف العالمية، في إدانة لأوروبا. يجري جيورجيو حديثاً بين قادة أوروبيين مجهولين، عن ضرورة قتل السود، مقابل استمرار ضخ أوروبا بالكاكاو الأفريقي. هكذا تستهدف جريمة القتل إحراج الأوروبيين الذين يعيشون من هيبتهم كأفراد عادلين ومثقفين، إنها رواية تذم الصورة الذهنية المستقرة عن أوروبا الخمسينات، التي خرجت من الحرب مدمرة، ومع ذلك أخفقت في علاج إدمانها لإذلال الشعوب الأخرى، واستنزاف مواردها.


(*) "شحاذو المعجزات" صدرت ترجمتها عن دار مسكيلياني من ترجمة: وحيدة بن حمادة، ومراجعة: محمد الخالدي وسحر ستالة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024