"كرافتورك": الرجال الآليّون قاتلو الأساطير.. فقدوا صديقاً

حسن الساحلي

الثلاثاء 2020/05/12
منذ أيام، توفي الموسيقي الألماني فلوران شنايدر أحد مؤسسي فرقة  "كرافتورك" الألمانية. عمل شنايدر مع الفرقة منذ تأسيسها العام 1970 ، قبل أن يغادرها نهائياً العام 2008. توقفت الفرقة عن انتاج الألبومات منذ ذلك الحين، لكنها مستمرة في تقديم الحفلات في المتاحف والمراكز الفنية، غالباً في مصاحبة عروض بصرية ثلاثية الأبعاد.

قال مغني الروك الإنكليزي، دايفد بوي، مرة، إن موسيقى الفرقة أشبه بموسيقى المصانع الشعبية. يشير التعبير الملتبس إلى التناقض بين الطبيعتين الآلية والإنسانية للموسيقى الإلكترونية التي تقدمها الفرقة (ولدت الفرقة في مدينة دوسيدورف الواقعة وسط منطقة صناعية في غرب ألمانيا) بالإضافة إلى القدرة على التواصل مع آذان وشرائح أكثر تنوعاً من مؤلفي الموسيقى الإلكترونية التجريبيين (ميوزيك كونكريت) والكلاسيكيين الذين قدموا أعمالاً نخبوية منذ الخمسينات.

طبعاً لم يقصد بوي الموسيقى الشعبية التقليدية أو الفولكلورية، بل "الموسيقى الشعبية التي تشبه المستقبل والحاضر أكثر مما تشبه الماضي".

بعد انطلاق شهرة الفرقة في أوروبا والولايات المتحدة العام 1974، بدأ النقاد وضعها في خانة  "سينث بوب" التي ستلتصق بها حتى اليوم، من دون أن يدخلها هذا في نظام النجومية الشائع في عالم البوب. أما سبب عدم دخول الفرقة في هذا النظام، رغم الشهرة الكبيرة التي حظيت بها، فهو سياسة الإبتعاد عن الأضواء التي اتبعتها عبر رفض إجراء المقابلات حول الأعمال الجديدة، ومنع تسريب المعلومات عن حياة الاعضاء الشخصية. 

حتى ان إستديو "كلينغ كلانغ" الذي صنعت فيه الفرقة ألبوماتها السبعة، والذي لطالما اعتبر نظيراً لمصنع آندي وارهول في نيويورك، بقي موقعه سرياً حتى انتقالهم منه العام 2008.  
يمكن تفسير هذا السلوك الذي اتبعته الفرقة، تناغماً مع هويتها المفاهيمية التي تصور الأعضاء كمجموعة من الرجال الآليين الذين لا يمتلكون هويات إنسانية ولا مشاعر، بينما هدفهم مثل اي آلة تحقيق الفعالية المطلقة (في إحدى الحفلات وضعت الفرقة مجسمات لرجال آليين وقفوا على المسرح مكان الأعضاء الحقيقيين). استلهمت الفرقة المفهوم من التراث الأدبي الألماني خلال نهاية القرن التاسع عشر والأعمال التعبيرية التي طبعت العقود الأولى من بداية السينما في المانيا ("ميتروبوليس" ابرزها)، ما يؤكد ان صدمة الحداثة يعاد اختبارها كل فترة بحسب ظروفها، وهو ما يزال يحصل اليوم وسيستمر بالحصول في المستقبل.
 

في ألبوم "ترانس أوروب إكسبرس"، تقدم الفرقة تفسيراً آخر لسلوكياتها، عن طريق معالجة ثيمات مثل فقدان الهوية والتشيوء الذي يطاول نجوم البوب. تحذر الفرقة من مخاطر الأضواء التي تؤدي إلى تلاشي شخصية الفنان، بسبب التحول الذي يحصل في الطريقة التي يرى نفسه بها، وذلك من خلال عيون الجمهور والصحافة، ما يؤدي في مرات كثيرة إلى أزمات وجودية.

لعب هذا الألبوم دوراً رئيساً في مسيرة الفرقة، كما في مستقبل الموسيقى الإلكترونية بشكل عام. فقد استلهمته فرق الإلكترو والسينث بوب خلال الثمانينات، وساهم في تطوير أنماط مثل التكنو والهاوس التي انطلقت في أوساط الأميركيين الأفارقة في مدينتي ديترويت ونيويورك.
غيرت الأنماط الجديدة مفهوم الفرقة بشكل عام، حيث تبنّت مشهدية العازف المنفرد او منسق الأسطوانات الذي يختصر الفرقة ويسيطر اليوم على عالم الترفيه والحفلات الشعبية.

من ناحية البنية الموسيقية، اعتمدت هذه الأنماط على قوالب بسيطة واكثر مرونة، واستعملت الكلمات بطريقة آلية تخدم الجو العام من دون التفكير في تشكيل قصة أو سرد، ورفعت من أهمية الإيقاع الآلي او الميكانيكي الذي يخلق نشوة الحركة المتواترة، على حساب الإيقاع الآكويستيكي الذي يحاكي المشاعر بشكل اكبر.

منذ ألبوم "أوتوبان" (يحمل اسم شبكة المواصلات البرّية التي طوّرها هيتلر خلال الثلاثينات واستعملها كجزء من البروباغندا النازية. تهدف الشبكة التي تضم الطرق وشبكة قطارات، تسريع عجلة التحديث عبر وصل المناطق الصناعية ببعضها البعض، وقد استُعملت هذه الشبكة لاحقاً في المحرقة اليهودية)، بدأت الفرقة بالإعتماد حصراً على الآلات الإلكترونية وتبنت مشهدية بصرية جديدة تتناغم مع فلسفتها الميكانيكية ورؤيتها المستقبلية. في هذا السياق يمكن فهم عدم اعتراف الفرقة بالألبومات التي أصدرتها قبل هذا الألبوم، وهي ألبومات تتصف بميل للإرتجال والتجريب، ويمكن وضعها بشكل أكبر ضمن خانة موسيقى الكراوت روك التي ظهرت في ألمانيا، أواخر الستينات وبداية السبعينات. 


لكن الفرقة قررت التخلي كلياً عن الآلات التقليدية الآكويستيكية مقابل الآلات الإلكترونية حصراً، رغم عدم إتاحة تلك الآلات بسهولة في ذلك الوقت وارتفاع تكلفتها. ساعد الفرقة في تحقيق هذه الدرجة العالية من "المستقبلية"، أصول أعضائها الغنية وقدرتهم على شراء آلات لا يستطيع شراؤها أعضاء الفرق الأخرى. بدأ الأعضاء أيضاً بارتداء بدلات أنيقة وقاموا بحلق شعرهم وتصفيفه بطريقة يبدون فيها "أشبه بموظفي مكتبة" وهو ما يختلف كلياً عن الشكل العبثي الذي يقدمه عادة عازفو الروك (استوحت الفرقة ثيابها من الثنائي "جيلبرت وجورج" اللذين قدما نفسيهما كعمل فني حيّ، خاصة في عرض The singing Sculpure الذي حوّلهما إلى منحوتات).

قدمت الفرقة مفهوماً جديداً للفنان "التقني ومهندس الصوت" سيطوّر في العقود اللاحقة، ويمكننا رؤية نماذجه في منسقي الإسطوانات النجوم اليوم بثيابهم الجدية وطرق تحركهم خلف شاشات لابتوباتهم، بالإضافة لأساليب الرقص الميكانيكية التي تحاكي حركة الرجال الآليين والأصوات والعبارات المستوحاة من شخصيات الذكاء الإصطناعي التي تتردد باستمرار في مقطوعات التكنو والهاوس.

لعبت الأجواء الفلسفية التي كانت سائدة في ألمانيا خلال العقود السابقة على مجيء الفرقة، دوراً مهماً في بناء المفاهيم الفلسفية التي ارتكزت عليها، بداية من اجواء القلق التي مر بها العاملون في الفن نهاية القرن التاسع عشر حول فقدان علاقة اعمالهم بالسياق الإجتماعي وعدم وجود وظيفة عملية للفن في المجتمع الحديث، مروراً بالأجواء المصاحبة لصعود تيار الباوهاوس خلال العشرينات الذي ساعد الفرقة في مواجهة الاسئلة الصعبة حول كيفية خلق هوية جديدة لألمانيا بعد انتهاء المرحلة النازية (تنتمي الفرقة لأول جيل يولد بعد انتهاء الحرب ومن أهل كانوا جزءاً من المرحلة النازية).

من أهم المبادئ التي تبنتها الفرقة وتقاطعت مع مبادئ الباهاوس: ضرورة إلغاء الفواصل والحدود الطبقية بين الفنان والحرفي/التقني، تعزيز الوظائفية في الفن، استعمال مواد من الواقع، تعزيز الإختزالية في الأسلوب والمواد، الإستفادة قدر الإمكان من التطور والإمكانات التكنولوجية التي يفترض إتاحتها للشرائح المختلفة. كما استفادت من مفهوم "العمل الفني الكامل" الذي يستثمر أنماطاً فنية مختلفة ويساهم في ولادة الهوية العصرية التي تقدم نماذج حياتية للحداثة تستبدل الأساطير التي تعتمد عليها التيارات الرجعية، وهو المفهوم نفسه الذي تبناه المؤلف والمسرحي الألماني ريتشارد فاغنر، خلال القرن التاسع عشر، لكن عبر توجيهه إلى المسرح والأوبرا عوضاً عن الموسيقى...

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024