نبيل البقيلي
كان من الممكن ان لا تحمل اطلالة سليم بركات عبر «القدس العربي» ، والتي جاءت متأخرة ثماني سنوات عن موعدها، الاثارة المطلوبة لو حذف منها الجزء المتعلق بخصوصية محمود درويش ولكن الأمر سيان لان المطلوب رأس الشاعر الفلسطيني والشاعر الكردي سليم بركات… معا!
كان قدومه الى بيروت اشبه بحضور مخلوق غريب يحمل تضاريس لغته القاسية، وذاكرة لم تعتدها العاصمة التي تتدعي الحداثة وتتبنى لغة اكثر بساطة من خلال التيارات الادبية والشعرية المتنوعة التي اجتمعت فيها ، في تلك الأيام قادمة، من عواصم القهر العربي الى واحة الحداثة حيث اقام روادها ونشروا اعمالهم بحرية الى العالم.
جاء سليم بركات بضيافة ادونيس واقام تحت جناحي الشاعر الكبير الذي كان يعاني بدوره من صعوبة تقبل لغته وافكارة الممعنة في الحداثة الى ابعد الحدود.
جاء سليم الى بيروت ليضيف نكهة لغوية قد تكون جافة وقاسية بالنسبة للكثيرين حينها، ولكنها لغة عربية بحاجة الى الكثير من الجهد لتقبلها مما خلق اشكالية كبيرة في تقبل هذا الكردي الذي يحمل في مخيلته مخزوناً كبيراً من التمرد والقساوة المتوحشة.
خرج سليم من ادونيس ليقيم في احضان الثورة الفلسطينية، التي عاش في كنفها معظم المثقفين المطردين من اوطانهم. واقام في غرفة ريفية ضمن بيت بيروتي الطراز استحوذت عليه فيما بعد النحاتة والفنانة منى السعودي.
بقي سليم وفياً لهذه الثورة ولبيروت حتى لحظة خروجه على متن البواخر الى الشتات والمنفى الكبير.
كنت في استقباله في مطار لارنكا قادماً من تونس برفقة السفير الفلسطيني في قبرص فؤاد البيطار وبطلب من محمود درويش لترتيب اعادة اصدار مجلة الكرمل من قبرص.
ربما كانت المرة الاولى التي عرف فيها سليم ركوب الطائرة، فقد عاش في بيروت ضمن نظام وروتين قاتل.. من العمل الى مطعم «علاء الدين» الملاصق لبيته لاحتساء بعض زجاجات البيرة، الى شقته المتواضعة جداً في بناية «القصر».
بقي سليم من الاوفياء القلائل للشاعر محمود درويش وحتى اللحظة الاخيرة احتمل وقاتل بشراسة حملات التشويه التي تعرضت لها «الكرمل» من التيارات السياسية المتعددة داخل الثورة، لما شكلته من واحة ديمقراطية لم تلتزم بالافكار «المريضة» داخل الثورة وفصائلها متعددة الاتجاهات.
لم يبذل سليم اي جهد في «تدجين» لغته سوى في الاعمال التي فرضت عليه بعض «التبسيط» ليس من اجل فض «بكارة» لغته الاصلية. انما هوية الكتابة او الحدث فرض هذا الشكل الجمالي في الكتابة، وهي اعمال اشبه بالسيرة ذات الخصوصية العالية والمتفردة.
لم يكن سليم بركات اجتماعياً بالقدر الكافي في مدينة مثل بيروت فشكل لغزاً اضافياً في ما يكتبه من شعر نخبوي قلة استطاعت التجاوب معه ، وحملت رواياته الغموض السريالي في اقصى درجاته فخلقت عالماً مغلقاً باحكام يتطلب الجهد الهائل والثقافة الخاصة للدخول اليه وفهمه..
عالم سليم يخلو من الرقة والمجاملة .
عالم تسيطر عليه وحشية اللغة وانانيتها .
عالم لا يمكن فصل لغته عن طفولة الكاتب ووحشية المكان الذي ينتمي اليه، والحضارة الدموية التي عاشت فيها سلالته.
انه شاعر ينتمي الى سلالة عميقة ومتجذرة في النبل والتاريخ.
نقول هذا الكلام لان البعض لم يتسن له الدخول الى هذا العالم المليء بالاحاجي والطقوس… ولا يملك مفاتيح او «كودات» هذا الكهف، فشكل سليم اشكالية اخرى في مدينة تبحث عن السهولة في انتاجها الادبي.
ولم تكن هذه الصعوبة في البلدان الاخرى كالعراق والمغرب العربي.
اما موقف البعض من اعمال سليم بركات فهو ينبع من الموقف السياسي الذي يمثله، وهو هويته الفلسطينية الكردية. وكان هذا الموقف نفسه من الشاعر محمود درويش في الثمانينات عشية الاجتياح الاسرائيلي للبنان والذي اصطف فيه البعض، ومن غالبية الطوائف ضد الثورة الفلسطينية. ولا بد من العودة الى مقال محمود درويش في مجلة الكرمل في عددها الاخير الذي صدر من بيروت ويحمل عنوان «جزء لا جزيرة» كي نستذكر تلك المرحلة.
نذكٌر بتلك المرحلة فقط لقساوتها وما عاناه محمود درويش من عزلة في بيروت الى درجة انه لم يجد مكاناً يأوي اليه من الجيش الاسرائيلي حين دخل العاصمة اللبنانية.
اما اليوم وبعد مقال سليم بركات (وهو نادراً ما كتب في الصحافة، او اجرى مقابلات صحافية).. يحتار البعض من اين يبدأ في نهش ادب سليم بركات وسمعة محمود درويش وخرج هؤلاء وهم يتحدثون عن العفة والاخلاق في الوقت الذي يفوح تاريخهم بروائح الخيانات واللا اخلاق.. من خيانة اوطانهم الى خيانة الثقافة التي يدعونها.
هذه الاصوات نفسها اصبحت اكثر"نضوجاً"، و"حذرا" عبر مواقع التواصل الأجتماعي، ولم يتغير في مواقفهم سوى انهم اصبحوا ينتمون الى تيارات تستتر خلف الحداثة او ما بعد بعد الحداثة.
انطلقت التعليقات الخاوية السطحية التي تحمل في طياتها حقدا سياسيا، قبل النقد الثقافي، بقيادة «فصائل» النقد الغبي المسطح الخالي من اي بعد اخلاقي او ثقافي مستهدفة الشاعر الكبير والروائي والشاعر الذي اعتكف في كافة المنافي التي عاشها داخل عالمه المحكم يصارع ابطاله بسرية مطلقة.
ومنهم، من اشك أنه قرأ لسليم بركات شعراً او رواية، يطلق مواقفه الحمقاء في تقييم اعماله تحت شعار انه ينتمي الى مدرسة الحداثة وما بعدها.
هؤلاء المثقفون بالذاكرة. ابناء النصوص "الشفهية". جهلة اللغة والمخيلة. «شبيحة» التيارات السياسية والثقافية يتطاولون على قمم الإبداع من خلال تعليقات مريضة او سوقية.
من يعرف مستوى علاقة محمود درويش وسليم بركات يدرك صدق وشفافية ما حمله المقال من معان ونبل.
محاولة القول ان سليم «خان» اعتراف صديقة هو امر لا يقل سخافة عن ادعاء الفضيلة لدى البعض في محاولة لتهشيم صورة الشاعر الايقونة والمقدسة لدى جمهوره.
ولا شك بأن سليم بركات اراد بدوره ازاحة اعتراف محمود درويش عن كاهله من خلال اعلانه، وهذا الأمر يعطي شرعية لمضمون الاعتراف.
مقال قد يكون تأخر سنوات كي يبصر النور، واعتراف من الشاعر الكبير، وكأنه اراد توقيته وحاملا توقيع سليم بركات.
ماهر الجنيدي
حسناً.. الضجيج قائم، ويبدو أن الأوان قد آن، وسأكشف المستور:
محمود درويش له أبناء وبنات كثر.. ليس واحدةً فحسب.. ولم يُخبر محمود درويش سليم بركات إلا بما أراد أن ينكشف يوماً.
ما دامت السيرة قد انفتحت على صفحات الجرائد، وطالما أن الغسيل كله بات منشوراً على مناشر التواصل الاجتماعي، يبتّ فيه من هبّ ودبّ، فلا بد لي أن أنشر ما عرفته شخصياً.
ينبغي في البداية أن أشير من غير تردد:
أحترم كثيراً مروءة ابن الريح، شاعرنا الكردي الجميل، ونبالته التي دفعته إلى أن يؤجّل نشر نصّه الفجائعي ثماني سنوات كاملة، احتراماً لصديقه المختلف.. مروءة لم نعهدها لدى بعض كتابنا وفلاسفتنا الذين ما فتئوا يسارعون إلى نهش لحم زملائهم الموتى نيئاً، حتى قبل أن تُوارى جثامينهم الثرى..
لعلّه - سليم بركات - رأى بعد ثماني سنوات أن يقتل هذا القديس الذي لم يعجب درويش يوماً، أو ذاك الإله الذي لم يؤمن به درويش يوماً، وأن يرقى به، ويرسّمه إنساناً ذا خطيئة، ينتظر كل مدّعٍ يود أن يرجمه بحجر..
ولكن، ماذا لو علم سليم بركات أن لدرويش أكثر من بنت، بل وأكثر من ولد؟
التقيت بدرويش أربع مرات على الأقل.. اثنتان منها في الإمارات.. واحدة في الشارقة والأخرى في دبي.
جنسياً، يذكّرني محمود درويش بالصورة المقابلة لشخص نكرة يعبق بالذكورة اسمه أبو رفّول.
أبو رفول وسيم. لم ينجب يوماً، ولم يتسنّ له أن ينجب. لكنّه كان يصرّ، بعد كل زيارة طبيب عقم وأمراض تناسلية، أن يجلس ويقول لأصدقائه بكل ثقة: لا أفهم كيف يجرؤ هذا الطبيب أيضاً على الزعم بأنني لا أنجب؟ أراهن. يكفي أن تمرّ امرأة بجواري لتحبل. من رائحتي، فقط!
درويش، الوسيم كذلك، كان يعبق بالذكورة أيضاً.. بيد أنّه كان يحبّل النساء فعلاً، من دون أن يفاخر بذلك في مجالسه.
كان يمكنه أن يتحدث عن فحولاته، أو أن يفبركها، وأن يصدقه الجميع، لكنه لم يفعل، رغم أن لديه أكثر من ولد وأكثر من بنت، من علاقات خارج إطار زوجيته.
أصحيح أنّه لم تحبل امرأة يوماً من مجرّد عبق محمود درويش؟.. تعالوا لنتكاشف:
كم فارس منّا- نحن الذكور- تقمّص محمود درويش وقرأ الأشعار على مسامع فرسه قبل أن يباشرها؟
[وكم فرسٍ منّا- نحن الإناث- أغمضت عينيها بعدما أمطرها صديقها بأشعار درويش، فاستهامت أنه فارسها وهو من يباشرها؟]
وقائع، ثمارُها جميعاً أبناءٌ شرعيون لمحمود درويش المغسول بالذنوب.. الرجل الذي آن الأوان لأن ننعيه قديساً أو إلهاً.. ونقرأه إنساناً ذا خطيئة.
ليس لمحمود درويش ابنة واحدة فقط خارج إطار الزوجية.. ذكورته الطافحة شعراً نثرت له عدة أبناء وعدة بنات.
هل أجمل من الخطيئة؟
عدي الزعبي
تذكّر الحملة على سليم بركات بالحملة على أدونيس: فيها تجاهل لعقود من العمل الثقافي، ولإنجازات ضخمة ومحورية في الحياة الثقافية العربية عموماً والسورية خصوصاً. لأسباب متعددة، لا أميل إلى أعمال الرجلين، ولكنني لا أعتقد ان محاكمة أعمال الكاتب بأثر رجعي قضية محقة.
كلا الرجلين تغيرت تجربته مراراً، وبرأيي، وصلت إلى طريق مسدود. في حالة سليم بركات، التجربة اللغوية، في بداياتها، شكلت حالة خاصة، جعلت معظم الشعراء العرب -ربما كلهم- يحسدونه على مقدرة فريدة لا مثيل لها ربما في تاريخ لغتنا كلها. من جهة أخرى، لكتبه الأولى، في السياق الكردي السوري، فضل هائل على إعادة تكريس وجود الكرد الثقافي بثقة وجمال، وهو أمر قد يشرحه بشكل أكبر من عاشوا تلك الفترة، ولا يجوز تناسيها بسبب خربشات عجوز ملول في أقصى الشمال البارد اليوم.
"السيرتان" واحد من أجمل الأعمال النثرية المكتوبة في سوريا، وتستحق الوقوف عندها مطولاً. كذلك، قصيدتي "مهاباد" و"محمود درويش" في "البازيار". وربما، قصائد أخرى مبكرة، يعرفها أكثر محبّو الرجل.
أتمنى أن يتوقف أدونيس وسليم بركات وسعدي يوسف كلياً عن الكتابة بكل أشكالها، الإبداعية والنقدية والصحفية، كي يتركوا لنا القليل من الوقت، والطاقة، لتقييم إنجازاتهم، ونقدها سلباً وإيجاباً، بدون هذه الثرثرة المسيئة التي يصبونها على الناس.
في سوريا مثل شعبي، أتذكره كثيراً في هذه الحالات :"الله يحسن كبرتنا"!
عادل الأسطة
في الضجيج الذي أثاره مقال سليم بركات عن علاقته بمحمود درويش وزعمه أن للشاعر ابنة، تذكرت نوفيلا للكاتب الألماني اشتيفان زفايغ عنوانها "رسالة من امرأة مجهولة".
المرأة التي حملت من الكاتب الشهير لم تخبره أن العلاقة أسفرت عن طفلة، وعندما مرضت الطفلة وشارفت على الموت كتبت المرأة المجهولة رسالتها للكاتب .
وسائل التواصل الاجتماعي ستنشغل بما كتبه سليم بركات عن طفلة محمود درويش أكثر من انشغالها بالكورونا وبضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية، وليس لكم إلا أن تقرأوا قصيدة محمود درويش التي عنوانها "رأيت الوداع الأخير" من ديوان "ورد أقل".
ثمة مثل عربي يقول "الكذب ملح الرجال"، وأما ما ألاحظه فهو أن النميمة هي تسالي الشعوب.
هل الحكاية أولها كذب وآخرها كذب؟
ينبغي لي شخصياً ألا أخوض في الأمر، فقلبي "من الحامض لاوي" كما يقول المثل.
الطريف أن محمود درويش في قصيدته "بيروت" كتب سطراً شعرياً عميقاً هو:
"قد ولدنا كيفما اتفق وانتشرنا كالنمال على الحصير".
ضبوا السيرة .
ايهاب بسيسو
أن تعيد قراءة محمود درويش قد يكون الرد الأكثر بلاغة على المقال الذي كتبه سليم بركات.
فتلك الحكاية التي أرادها الكاتب مبتورة ومقتضبة وقد تكون مختلقة وملتبسة لم تكن بريئة وهي تأتي في سياق الكتابة عن محمود درويش بعد كل تلك السنوات من الغياب.
وقد لا يكون من المجدي البحث عن مقصد خفي للكاتب من وراء مقاله الأخير والذي كتبه في العام 2012 ليتم نشره في العام 2020، فحكايات كهذه عندما تظهر بالشكل الذي ظهرت عليه في مقال سليم بركات تكون قد أفصحت عن قصدها بشكل لا يحتاج إلى المزيد من التأويل أو التحليل.
ولكن يبقى السؤال الذي يحمل في طياته بعضاً من إجابة، خصوصاً مع معرفة الكثيرين كم كانت صداقة الرجلين مميزة، لو كان محمود درويش ما زال على قيد الحياة وكان سليم بركات الذي سبقه إلى الأبدية. أكان درويش سيكتب عن بركات بالطريقة ذاتها التي كتب فيها بركات المقال عن درويش بعد كل السنوات على رحيل الجسد؟
يحزنك تحول الصداقات إلى ذاكرة مشوشة يطوقها الضباب فترتبك وتتقلص وقد تتحول إلى حكايات غامضة عابرة ...
بعد مقال سليم بركات الأخير عن محمود درويش يدفعك الفضول أن تعيد قراءة قصيدة "ليس للكردي إلا الريح" والتي كتبها محمود درويش عن سليم بركات ...
وتتوقف عند نهاية القصيدة ...
"باللغة انتصرتَ على الهوية
قلتُ للكردي، باللغة انتقمتَ
من الغياب
فقال : لن أمضي الى الصحراء
قلت ولا أنا..
ونظرتُ نحو الريح/
- عمتَ مساء
- عم مساء!"
عمت مساء محمود درويش ...
واسيني الأعرج
في تحطيم أيقونة درويش وشنق سليم بركات؟
في تمجيد سيرفانتس وهنري ميلر والبير كامو...
واسيني
ما هذا الذي يحدث؟ من أين جاءوا؟
يشهد العالم اليوم غضبا شديدا ضد العنصرية، وتحطيما شاملا لتماثيل العار التي تمجد رواد العبودية. فجأة اكتشفنا مع سكان هذه المعمورة أن المدن الجميلة التي نسعد بها سياحيا وثقافيا، مليئة برموز الموت والعنصرية، في أوروبا وأمريكا وآسيا، في عصر حقوق الإنسان. في اللحظة نفسها، في الزمن نفسه، نغمض أعيننا ونحمل معاولنا لتحطيم أيقوناتنا ومنها درويش. السبب، أن الشاعر والروائي السوري الكردي الكبير، الذي اختار العربية وطنا له، سليم بركات، الابن الجميل لدرويش كما يصف نفسه بنفسه، كشف السر المخبوء؟ ما هو هذا السر العظيم الذي هز العالم العربي إعلاميا؟ درويش انجب بنوتة خارج علاقة الزواج من سيدة، لا احد يعرف من هي، وترك لها حرية الإفصاح. "محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوَّةٍ، كأنَّ الأمرَ كلَّه اعترافٌ صغيرٌ لصديقِ سنينَ طويلةٍ من عمره، بلا متْنٍ من توضيح في اللغة، أو هوامشَ إضافاتٍ، أو حواشي متجانسةٍ. أنا، نفْسِي، تلقَّفتُ اعترافَه بلا فضولٍ: لكانَ أنبَأَني من تكون المرأةُ لو كنتُ أعرفها. وها الفضولُ، خاملاً، يعبر خاطري بعد اثنتين وعشرين سنة. لابأس. أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات، الآن، مُذْ كُنا إقامةً في الكلماتِ مُلفَّقةً بسطوةِ الشعر وبطشِهِ. لكنه التلفيقُ الأنقى مُذْ كانت الأمكنةُ ناكثةً بوعودِها ـ وعودِ الأمكنة." فجأة أصبح درويش غير مرغوب فيه، ووشاية سليم مصدر لعنة لم يبق بعدها إلا الشنق في ساحة من الساحات العامة. درويش/ سليم هما موضوع الساعة، إذ غطت قضيتهما على العنصرية العالمية، والظلم الإنساني، وكورونا فيروس. ألهذا الحد يهم فراش درويش، وعاطفته، وحياته الجنسية الأمة كلها؟ درويش إنسان كما جميع البشر، يحب ويكره، يصيب ويخطئ؟ ومثله سليم الذي لا أعتقد مطلقا أنه قصد الإساءة لوالده. في النهاية هل يؤثر ذلك كله على كون درويش شاعرا عظيما؟ أبدا. ماذا نقول عن آرثر ميلر إذن الذي نقرأه بمتعة؟ عن أناييس نين التي نمجدها فنيا ونقديا؟ كيف سيكون حكمنا على سيرفانتس إذا عرفنا أنه كانت له ابنة من غير زوجته ؟ بل ماذا نقول عن كاتب الغريب وماريا كازاريس؟ اتركوا الناس وشأنهم واهتموا بأدبهم فهو الأبقى والأجمل. سيظل درويش كما كل عظماء العصر، كبيرا، وكلما قرأناه، أصبنا بدهشة جديدة. سيرة حياته ربما ستكتب يوما عندما يقبل المثقف العربي ليس فقط بالاختلاف، ولكن أيضا بالحياة الخاصة للكاتب. ربما يكون سليم ب"زلته" الوجدانية العامرة حبا لدرويش، قد فتح صفحة أخرى في كتابة السير الخفية في عالمنا الأدبي المغلق.
انتبهوا. في بلداننا توجد أيضا عنصرية رخيصة، علينا أن نتنبه لها.
علي بدر
عن سليم بركات ومحمود درويش
زار سليم بركات بغداد في العام 1986 مدعوّاً لمهرجان المربد الشعري والذي يعدّ الأهمّ والأشهر ذلك الوقت. جاء برفقة محمود درويش، حيث كان يعمل معه محرراً في فصلية الكرمل، المجلة التي أطلقها محمود درويش في العام 1981، وعمل فيها بركات سواء في بيروت منذ انطلاقها في العام 1981 أو عند انتقالها إلى قبرص بعد أن خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، وحتى العام 1993 حيث انتقلت المجلة إلى رام الله بعد اتفاق أوسلو بينما انتقل سليم بركات لاجئاً سياسياً إلى السويد.
ورحلة درويش إلى بغداد في زمن صدام حسين، والحرب العراقية الإيرانية، ومذبحة الشيوعيين واليسار في العراق أثارت زوبعة هائلة من قبل الشعراء العراقيين وبعض اليسار العربي ومن الماركسيين تحديداً، والذين كانوا معارضين ويعيشون في المنافي ذلك الوقت، اشهرها الرسالة المفتوحة التي كتبها هادي العلوي لمحمود درويش واتهمه فيها اتهامات أخلاقية واضحة، والنقد الذي وجهه له كنعان مكية في كتابه القسوة والصمت الذي صدر بالانكليزية في العام 1993 عن دار بانتيون، حيث ركز مكية على جملة وردت في كلمة درويش في المهرجان "شكراً لقمر بغداد الليموني"، والتي فسرت على أن المقصود فيها هو صدام حسين، والردود التي وجهت الى كنعان مكية من إدوارد سعيد، فواز طرابلسي، صبحي حديدي وغيرهم.
من حمل الدعوة، في ظني، إلى سليم بركات في قبرص ذلك الوقت، روائي عراقي كبير، ويقال إن سليم بركات اعتذر في البداية متعلّلاً بأنه غير معروف في بغداد وأن كتبه ممنوعة هناك، فأخرج له الروائي العراقي من جيبه مقالة صغيرة كان قد كتبها نصيف الناصري وهو أشهر شاعر سوريالي ذلك الوقت عن سليم بركات وأثره في شعراء جيله من الثمانينات، وكان الشعراء العراقيون الشباب ذلك الوقت قد قرءوا ديوانيه "الجمهرات" الذي صدر آخر العقد السبعيني، و"أبعثر موسيسانا" الذي صدر في بدايته، وكانا متوفرين في بغداد في الثمانينات حسب ما سمعت، فسرعان ما قبل سليم الدعوة وجاء إلى بغداد.
كان المزاج الشعري في الثمانينات يرتكز على اللغة والغموض والتعمية والارتكاز على معجم قديم وبائد، وشعر آدونيس في المقدمة حيث أثر بطائفة كبيرة من شعراء السبعينيات والثمانيات شعريّاً وفكريّاً، وكتابه "الثابت والمتحوّل" مقدس الأجيال اللاحقة ولا سيما في الثمانيات. وأسبابه عديدة، كانت نوعاً من الهروب عن التصريح بموقف واضح من الحرب من جهة، ومن جهة أخرى من سلطة استبدادية في أعتى قوتها، ولديها ايديولوجية سياسية وثقافية راسخة.
فعلى خلاف السلطات الاستبداية في العالم العربي التي كانت تعير الاهتمام فقط للمواقف السياسية وتهمل الموقف أو النص الأدبي، كانت السلطة في العراق ممثلة بشعراء وكتاب مهمين أيضاً تتدخل في شكل الكتابة، وتحاسب على النوع أو الجنس الأدبي كموقف سياسي فكان من غير الممكن في ذلك الوقت إبراز هوية سياسية أو ثقافية أو شعرية مخالفة للسائد إلا عبر لغة غامضة، واستعارية، وترميزية وبالتالي كتابة نصوص من الصعب استنطاقها وهكذا انتعش في العراق شعر بركات المتأثر أصلاً بشعر آدونيس مثل أغلب شعراء السبعينيات "قاسم حداد، زاهر الجيزاني، خزعل الماجدي، محمد بنيس". وكان آدونيس هو الذي نشر له ديوانه الأول "كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا" والذي صدر في العام 1973 عن مجلة مواقف. وهي المجلة التي أطلقها آدونيس بعد أن توقفت مجلة شعر التي أطلقها يوسف الخال في الستينيات وكانت أهم مجلة ثقافية وشعرية حينذاك.
كما أن أغلب الشعراء الذين روجوا لشعر بركات هم من الشعراء الجنود الذي كانوا يخدمون في جبهة الحرب في الثمانينات. لذلك انتعشت كتابات سليم بركات بقوة في الجيل الذي كان يسمى المرحلة الأخيرة من جيل الثمانينات، وأغلبهم نشروا قصائدهم في مجلة الطليعة الأدبية، ومن ثم جمعت قصائدهم في كتاب انطلوجيا الموجة الجديدة الذي نشر في العام 1986 أيضاً بأشراف عرابيّ الجيل، زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي.
حين وصل بركات إلى بغداد، كان أغلب الشعراء الشباب في الجبهة، من لم يحصل على إجازة أو دعوة هرب ذلك الوقت ووصل إلى بغداد للقاء سليم بركات، بالرغم من أن عقوبة الهروب هي الإعدام والسلطة في العراق لا تمزح، لكن المغامرة واللعب مع الموت يستحقان لقاء شاعر أحدسوا أنه سيحدث زوبعة. فبركات لم تكن له الأهمية الشعرية ذاتها التي لمحمود درويش أو الفيتوري أو سركون بولص أو حسب الشيخ جعفر ممن حضر المربد ذلك العام، ولكنه قادر على إحداث مشكلة، بدفع من الشعراء المهمشين ذلك الوقت من السلطة السياسية والذين أحاطوا به كرمز أقلياتي كردي أمام سلطة قومية عربية شوفينية، وشعري يستخدم اللغة العربية استخداماً سياسيّاً مضاداً، وهو من جانبه قدّر هذه المناسبة بطريقة بالغة الذكاء، فقرأ قصيدة مهداة إلى سعدي يوسف، وما أن لفظ اسم سعدي يوسف حتى تجمدت القاعة ذعراً، فقد كان اسم سعدي يوسف من المحظورات في سلطة صدام حسين، وقد أزيل تماماً لمحو ذاكرة ثقافية كاملة. وكما أنه سيعرّض منظّمي المربد لمسائلة قاسيّة، والسؤال هو من دعا سليم بركات إلى المربد؟ فتهجم عليه بعض الشعراء والنقاد المرتبطين بالسلطة والذين ارتبكوا أمام هذا الحدث غير المتوقع، (لا أريد ذكر الأسماء)، لكن هذا جعل سليم بركات يسير وهو محاط بمريديه أشبه بالملك، كما أنه قدر ربما متأخراً ما أقدم عليه، فخشي على نفسه، فقطع الزيارة وعاد إلى قبرص، وكان عدد الكرمل الذي صدر بعد هذه الزيارة ضمّ القصائد الأشهر لنصيف الناصري، مع شعراء آخرين هم الأهمّ من جيل الثمانيات العربي مثل أمجد ناصر وغسان زقطان وغيرهم.
خرج سليم بركات من دمشق في العام 1971 إلى بيروت كان قد نشر بعض القصائد في مجلة الطليعة من بينها نقابة الأنساب التي ضمها إلى ديوانه الأول " كلّ داخلٍ سيهتف لأجلي وكلّ خارج أيضاً" والذي نشره له آدونيس في العام 1973، ومن ثم نشر له الكثير من قصائد ديوانه الثاني أبعثر موسيسانا صدر في العام 1975، ومن ثم ديوانه الثالث الأشهر "للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك" الذي صدر في بيروت في العام 1977، وكانت فرادة كتابات سليم بركات حينها بعودته إلى المعجم العربي القديم في الوقت الذي أخذ فيه الشعر العربي يتجه إلى لغة يومية واضحة، مأخوذاً بشعر الماغوظ وفي ديوانه الأشهر "الفرح ليس مهنتي" والذي دفع الشعر العربي إلى منطقة جديدة تماماً. وكذلك باحتفاء سليم بركات بفضاءات الحياة اليومية الكردية التي كانت غريبة على الشعر العربي كما في قصيدته "دينوكا بريفا" التي نشرتها مواقف في العام 1972، وديلانا وديرام وغيرها من القصائد، وكان هذا النوع من الكتابة قد دشنه سركون بولص بقوّة في قصائده حيث أحيا الفضاءات الآشورية في شعره بطريقة سرديّة وقد نشرت له مجلة مواقف الكثير من هذا النوع من القصائد، وآثارها على شعر سليم بركات واضحة.
ما ورد في مقالة سليم بركات الأخيرة ليس مستغرباً، فهو شاعر اعتاد إثارة الزوبعة، وهو يدرك ان حدثاً شخصياً تافهاً "البنت المزعومة لمحمود درويش" بكل المقاييس قادر على إثارة رأي عام عربي ضده، وليس ضد درويش مطلقاً، فدرويش تحول إلى أيقونة عند جيل لا يعرف تاريخ الأدب العربي ولا يفهم فيه، وربما هذه هي واحدة من الأسباب التي جعلت سليم بركات يثير هذه الزوبعة، مع أسباب عديدة، ففي الزمن الذي كان يحيا فيه درويش لم يكن هو الأهم شعرياً لا عند الشعراء ولا عند المثقفين، كانت شهرته جماهيرية فقط، كان هنالك آدونيس، عبدالصبور، سعدي يوسف، الماغوط، أنسي الحاج، وغيرهم، ولكن بعد وفاته تحول إلى أيقونة وخصوصا عند الجيل الجديد فأثار حساسية الكثير من الشعراء. من يعرف محمود درويش يعرف جيداً أنه يجيد اختراع قصص من هذا النوع للتسلية، لا أظن أن سليم بركات صدقه حينها، على الأرجح أراد تصديقها مؤخراً، فكتب مقالته وبالطريقة التي يجيد فيها أن يثير حساسية العرب أمام جهلهم بلغة بائدة وحساسيتهم الأخلاقية التي لم تتحرر من كل شيء قديم وبائد.
سأتكلم لاحقاً عن علاقتي بمحمود درويش الذي تعرفت عليه قبل وفاته بعامين في سيئول في كوريا الجنوبية، وقد دخلت معه بحوارات طويلة وممتعة.