بعيداً من فيروز وماجدة.. الأيقونات الحقيقية للأغنية الثورية

يارا نحلة

الخميس 2020/09/10
في بلادنا مغنيات بحجم الوطن. أو هكذا قيل لنا. هن فنانات أمضين مسيرتهن في غناء قضايا الوطن، التحرّر والثورة، من دون أن يصل أي منها إلى خاتمته المرجوة. هن مغنيات ضخّمن معنى الوطن ودلالاته، فألبسنه ثوب ثورة متخيلة وعزّ غير موجود. منهن من أنزلن صفات الكرامة والغضب، الخير والجمال، على بلدٍ لم يستطع خلال نصف عقدٍ أن يتخلص من نظام مجبول بالذلّ، بلدٍ سلبت خيراته وامحى جماله. ومنهن أيضاً من غنّين للثورة، تلك التي تولد من رحم الأحزان، فيما ولد فنّهن وإستمدّ سلطته من رحم أنظمةٍ تعيث في الأرض فساداً وأحزاناً. ومنهن من طبّلن للمقاومة، تلك المقاومة التي تحرّم الغناء والموسيقى، وانتهى بهن الحال في مزاوجة النظام. هل هذه هي فعلاً الأيقونات التي تختصر ما يعرف بالفنّ الملتزم؟ هل يحتّم النجاح المهني على الفنانات أن يكنّ دوماً أدواتاً في خدمة النظام؟

في 15 أيلول 1963، أقدم عدد من المتعصبين البيض على تفجير كنيسة معمدانية في ألاباما بالولايات المتحدة، أدت الى مقتل أربع فتيات سوداوات. حين علمت المغنية نينا سيمون بالخبر، غمرتها رغبة بالإنتقام والعنف. "أردت أن أخرج وأقتل أحداً ما،" اعترفت سيمون في مذكراتها. لكنها بدلاً من ذلك، جلست أمام البيانو، تلك الآلة التي أضحت امتداداً لكيانها وحاوية آمالها وإنكساراتها، مفرغةً فيها جامّ غضبها ورغباتها الإنتقامية، مؤلفةً خلال ساعةٍ واحدة أغنيتها الأيقونية "مسيسيبي غادام".


لا تتوانى سيمون عن الإعلان عن غضبها واحتقانها الذي ترجمته إلى عنوان صادم يلعن الرب. تستحضر تاريخ شعبها الحافل بالقمع والإستغلال، ذلك الذي تسلقه الرجل الأبيض ليبني مستعمرة اليوم، فسلبهم قوة عملهم، سواء كعبيد يقطفون القطن أو كعمال يمسحون النوافذ. وبعد حوالى قرنٍ على إلغاء نظام العبودية، تعترف سيمون في أغنيتها بأن كلّ يوم يمرّ عليها تظنّه "آخر يوم لي".

وعلى غرار "مسيسبي غادام"، وضعت سيمون الكثير من الأغاني المشحونة سياسياً، بطريقةٍ أو بأخرى. ففي كل مرة احتفت سيمون بأي سمة من سمات وجودها، كان ذلك بمثابة احتفاء بالتراث الأفريقي-الأميركي. وفي كلّ مرة صدح صوتها الأجشّ، كان ذلك تعبيراً عن قوة ومقاومة شعب بكامله. حاربت سيمون على جبهات عديدة، وحملت قضايا متقاطعة من المساواة العرقية إلى العدالة الإجتماعية مروراً بتحرّر المرأة. لا تسدل سيمون غطاء الرومانسية على قضاياها كما هو حال الأغنيات العربية "الملتزمة". لا تتظاهر بقوةٍ في غير مكانها على غرار أناشيد سمعناها. ترسم واقعها، واقع المرأة السوداء، بكل تفاصيله المؤلمة والمأسوية، ذلك الذي لا نريد السماع عنه، لكننا نستمع رغماً عنا.

ليست سيمون حالة فريدة في تاريخ موسيقى الجاز الغني بأصواتٍ أنثوية ثورية أعطت زخماً لحراك الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، فمهدن لما يعرف اليوم بموسيقى "الإحتجاج". ومن المحطات المهمة في هذا التاريخ، أغنية Strange Fruit (فاكهة غريبة) السياسية بجوهرها، والتي جعلتها بيلي هوليداي شخصية للغاية. الشِّعر الذي كتبه أستاذ يهودي شيوعي اسمه أبيل ميروبيل، مستوحى من صورةٍ تعود للعام 1930 ملتقطةً مشهد شنق رجلين أسوَدين في إنديانا. حين قرأت هوليداي الشِّعر، ذكّرتها أبياته بأبيها الذي توفي نتيجة رفض المشفى استقباله بسبب بشرته السوداء. وخلال مسيرتها الممتدّة على عقدين، استمرّت هوليداي في تأدية الأغنية التي كانت تجلب لها الكثير من الذكريات المأسوية. لكنها بالرغم من ذلك شعرت بوجوب تأديتها، "فبعد عشرين سنة على وفاة بابا، لا تزال الأمور التي قتلته تحدث في الجنوب".


"الفاكهة الغريبة المتدليّة من الأشجار الجنوبية، تلك التي ينتفها الغربان وتمتصها الرياح وتتعفّن تحت الشمس" هي إذاً جثث الرجال السود المشنوقة. غنّتها هوليداي للمرة الأولى في العام 1939. وفي كل الحفلات حيث قدمت هوليداي هذه الأغنية، اختلفت ردود أفعال الجمهور. منهم من صفق عالياً ومطولاً، ومنهم من غادر عاقداً حاجبيه، فهو لا يريد السماع عن صراعات السود وما تعرضوا إليه على أيدي البيض.

دفعت هوليداي ثمن ثورتها الغنائية غالياً، فقد حملت إليها هذه الأغنية متاعب جمّة حين اصطدمت بعنصرية وحقد من رأوا في في فنّ هوليداي "موسيقى الشيطان"، وتحديداً مفوض المكتب الفيدرالي لمكافحة المخدرات المدهو هاري أنسلجر، الذي عزم على إسكات هوليداي وإنهاء مسيرتها بل وحياتها أيضاً. فحين رفضت المغنية الإنصياع إلى أمره القاضي بالتوقف عن أداء الأغنية، دبّر لها المفوّض تهمة تعاطي مخدرات، وتسبّب في سجنها لمدة عام ونصف العام بالإضافة إلى سحب رخصة الغناء منها. ثابر المفوض على تدميرها، فأرسل رجاله إلى المشفى حيث كانت تتعالج من أمراضٍ كثيرة فقاموا بتكبيلها إلى سريرها ومنعوا الفريق الطبي من تقديم أي علاج لها. ماتت هوليداي في غضون أيام. لم تحصل على التقدير الذي كانت تستحقه إلا بعد وفاتها، فإنهالت عليها الجوائز ومنها 23 جائزة "غرامي"، إضافةً إلى إدخالها "قاعة مشاهير موسيقى الإيقاع والبلوز الوطنية".

بالرغم من أن موسيقى الإحتجاج قد ولدت على يد المجتمع الأفرو-أميركي وانبثقت عن حراك الحقوق المدنية، إلا أن هذه القضية كان لها مؤيدون كثر من أعراقٍ وخلفيات مختلفة وضعوا فنهم في خدمة هذا المشروع التحرري. من هؤلاء، مغنية الفولك جوان بايز، ذات الأصول المكسيكية والإسكوتلندية، التي سخّرت صوتها لعدد من القضايا. غنّت بايز إلى جانب مارتن لوثر كينغ، أحد أناشيد حراك الحقوق المدينة We Shall Overcome، كما ناضلت ضد الحرب في فيتنام وقد اعتقلت خلال أحد الإعتصامات العام 1967. وفي ضوء معارضتها للحرب وزيارتها لفيتنام حيث أمضت 12 يوماً تحت القصف الأميركي، بالإضافة إلى أدائها في مهرجان شيوعي في تشيكوسلوفاكيا، كانت تهمة الشيوعية جاهزة لها. لكن حين انتَقدت المغنية في ما بعد، ممارسات النظام الفيتنامي بحق شعبه، فتحت على نفسها حرباً جديدة شنّتها الجبهة اليسارية هذه المرة.

عن عمرٍ يناهز الثمانين، تواصل بايز نضالها السياسي، ومن آخر أعمالها قبل الإعتزال كان إهداؤها أغنية لترامب في العام 2017 بعنوان "رجل قذر"، حيث وصفت الرئيس الأميركي بالشيطان والوحش.

 


بين نينا وفيروز، بيلي وماجدة، جوان وجوليا، عوالم شاسعة يفصل بينها صدق شرارة الغضب المنبعثة من نظرة المغنية، وموقعها من الصراع مع النظام. ثمة نماذج كثيرة عن فنانات يُعرن أصواتهن لقضايا كاذبة، فيضحين "تنفيسة" المجتمع في أحسن الأحوال، أو مهللات للأنظمة ومبيضات لصفحتها في أسوئها. العالم العربي، بأنظمته الإستبدادية، يعرف هذه النماذج جيداً، بألسنتها المزدوجة التي تنطق الثورة وحب الوطن حيناً، وحبها للحكام وإنبطاحها عند أقدامهم أحياناً أخرى. لعلّ الفارق الأساس بين أيقونات الغناء العربي، من أم كلثوم إلى جوليا بطرس وتانيا صالح من جهة، وأيقونات موسيقى الجاز والبلوز والفولك من جهة أخرى، هو أن الأخيرات لم يعطين لصوتهن ولثورتهن المغناة قيمة تمثيلية فحسب، بل عشن هذه الثورة بكل ما يملكنه؛ بلون بشرتهن وخامات أصواتهن، بسمعتهن وحريتهن، وأحياناً بحيواتهن. لم يغنين للثورة وللثورة المضادة معاً، لم يحتفين بالوطن قبل الإرتماء في أحضان زعمائه الفاسدين وزعماء دول استعمارية أخرى.

في إحدى حفلاتها تقول سيمون: "حين أموت، سأكون قد تركت لشعبي شيئاً كي يبني عليه، هذه مكافأتي".. فهل تستطيع أيقوناتنا قول شيء مماثل؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024