محمد خضير... المرضُ طبيعة

المدن - ثقافة

الأحد 2020/09/13
يُشار الى مجتمعات العالم الثالث/ المجهول، بأنها ضحيّة الثالوث الخرافي: الجهل والفقر والمرض، غير أنّ للأثفية الاخيرة في أنثربولوجيا المناطق الاستوائية والصحراوية اسطورةً متأصلة في دراسات المستكشفين، مقرونةً بأشهى الطبخات وألذّ الأكلات الحرّيفة (كتُب ليفي شتراوس مثلا). ولا يكاد يخلو جسدٌ جميل من سكان الأهوار الجنوبية في العراق من مرض مستوطِن كالملاريا والبلهارزيا وفقر الدم والطفيليات، استهامَ به رحالةُ المجاهل أمثال ثيسيجر وكافن. كانت هذه الأمراض هي التي تضفي المسحةَ الحزينة، والضمورَ الروحي على الوجوه التي صوّرها المستشرقون من خلال الأكواخ والقوارب، واعتبروها كشفاً مذهلاً لأنواع إنسانية نادرة. كان المرض قرينَ الملبس والوشم الطبيعي والصناعي والرشاقة لمئات من النساء السافرات والرجال الملثمين في صحراء المغرب والجزائر والجزيرة العربية وغابات السودان وصعيد مصر وأهوار العراق.

كان للأمراض المستوطنة أطباؤها المتخصصون وعياداتها الخاصة، حتى وقت قصير، قبل أن يتحول هذا التخصّص الطبّي الى نوع من الاتجار العيادي بالأوبئة والجوائح، واستثمار الهلع والحجر الاضطراري في تشويه طبيعة المرض الأليفة. لقد قضت قوانينُ القطيع على فرادة المرض واستئثاره بأجساد مختارة، يفرزها مع أعاجيب الطبيعة وقِيَم الاجتماع النقية من الاستثمار الصناعي والتجاري البشع. وليس ببعيد افتخارُ عباقرة الأدب والفن والفكر بأمراضهم التي أستأثرت بأجسادهم حتى اللحد. وكان ملوك مصر والعراق القدماء يحنّطون تشويهات خِلقتِهم وسماً غير مرئي، يؤهلهم لحياة أخرى غير منتهية. فالمرض طبيعةٌ يمكن استيطانها مثل الخلود في نصوص أدبية وموسيقية لم تُبلِها الأزمانُ ولا الأوبئة والحروب.


أنشأتُ في كتابي "ما يُمسَك وما لا يُمسَك" أربعةَ دفاتر سِيريّة، بعدد فصول السنة، خصَصتُ بها مواضعَ الفرادة الطبيعية في حياة شخصيات مرضى، وعلائمَ أمكنة المرض والعزل، وبكارةَ الحسّ بالأشياء الطبيعية. ولو كرّرتُ تجربةَ الدفاتر الطبيعية تلك، لَما أغفلتُ ثلاثَ علامات ترتبط بالمرض وصنوه الجمال والخلود: الموقد- وسيلة إحماء أداة الكيّ؛ والأعشاب- مادة العصائر والخضاب ومضادات الألم؛ والقواقع والخرز والأثمار الصلبة- عناصر التجميل واكسسوارات الطقوس الطبيعية.

بمَ نعيشُ ونستأثِر: بالوقاية المفرطة وهلع القطيع الوبائي، أم بالمعايشة والتوطين والخلود في نصوص المرض؟ ولمن يعود خلودُ الإرث الطبيعي لشعراء الطبيعة والمرض: لقلائد الذهب والأحجار الثمينة، أم لمِسبحة الحسن البصري المنظومة من تسع وتسعين حبّة بَعر؟ وأيّهما أسبقُ في الوجود وأرقى حكمة: مُتَع البلاطات الملكية وشهوة رجالها، أم مرض أيوب النبي في معتزله؟ 
(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024