العبرة بالخواتيم يا أميركا.. ترامب، بايدن، شكسبير

محمد صبحي

الأحد 2020/11/08
بالتأكيد، هذه الانتخابات الرئاسية الأميركية ليست مثل أي انتخابات أخرى. في هذا التوقيت، قد يتساءل المرء عما إذا كانت لا تزال بالفعل انتخابات. من حيث المبدأ، فالانتخابات، أي انتخابات، تفترض مسبقاً خياراً مدعوماً جيداً ونقاشاً حقيقياً للأفكار، وبدائل واضحة ومتماسكة داخل نظام من القيم المشتركة. لكن، هنا، العكس هو الصحيح: هوس تبسيطي، أسراب من الإهانات المتبادلة، تحذيرات جدّية من خطورة الخصم المتهم بوضع البلد في أسوأ المخاطر في حالة وجود أغلبية غير متوقعة لصالحه. باختصار، نشهد نزع شرعية متبادل بين المرشحين المتنافسين، حتى لو كان ذلك يعني نزع الشرعية عن الديمقراطية بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.

بايدن أو ترامب، كل طرف يصوِّر المرشح المعارض كمغتصِب محتمل، لا يستحق تولي أعلى المناصب. بالاستماع إليهما، يبدو الأمر أكثر من مجرد انتخابات رئاسية، إذ سيمثل فوز بايدن عودة إلى الوضع الصحيح واستعادة "روح أميركا" (بالنسبة للديمقراطيين)، فيما على العكس سيكون فوز ترامب دعماً وتأكيداً لمسار "أميركا العظيمة" مجدداً وأبداً (بالنسبة للجمهوريين).
أكثر من ذلك، اتساع مدى تأثير تلك المشايعة الحزبية والاستقطاب الجماهيري الحادّين لدرجة وصول الأصداء إلى الجانب الآخر من المحيط، أوروبا، حيث ينتظر الأوروبيون بفارغ الصبر سقوط رئيس متهم بتحويل الحلم الأميركي إلى كابوس. قليلاً كما لو، مع انتخاب ترامب المفاجئ قبل أربع سنوات، استبدل أطفال القارة العجوز أباً حقيقياً ومُحِبّاً بزوج أمٍّ لا يُطاق، دون أن يكون لهم رأي في الأمر.

في محيطنا العربي، أيضاً، يحضر الانقسام والمتابعة لمآلات الانتخابات الأميركية، مع شيوع نبرة متحمسة لترامب في أوساط داعمي القادة السلطويين وحلفائهم من المهرولين للتطبيع مع إسرائيل، بينما في المقلب الآخر من حفرة الاستبداد والانسداد العربي، يأمل التقدميون ومهزومو انتفاضات ربيع 2011 المجهضة أن يصحّح فوز بايدن المرجح ميل الكفّة لصالح القائمين على إبقاء الأمور على حالها.

وبهذه الكيفية، تبدو الحياة السياسية وكأنها حكاية خرافية قديمة، أكثر من أن نصدقها، يضيع فيها أطفال داخل أعماق غابة لا حدود لها، هرباً من سلطة أب مستبد اغتصب السلطة من أخيه ثم نفاه إلى الغابة. هذا هو المشهد الذي يصفه شكسبير في مسرحيته "كما تشاء" (1599)، وهي كوميدية رعوية رقيقة وحافلة بانعطافات الحبكة. الأطفال هم سيلينا وروزاليند، ابنة الدوق الشرير وابنة أخيه المنفي وقد أحبت إحداهما الأخرى أكثر من أغلب الأخوات ورفضتا إرث الكراهية الذي كان من شانه تفريقهما، وانطلقا معاً بحثاً عن شاب وسيم يطارده الدوق ويسعى أخوه لقتله. قادهما سعيهما على وجه التحديد إلى الغابة، حيث وجد الدوق الشرعي ملجأ وموئلاً، تماماً كما فعل روبن هود في غابة شيروود قديماً في إنكلترا. 

ينسج شكسبير قماشته الحكائية مسرحاً لصراعات البشر وأهوالهم المضحكة المبكية. روزاليندا وسيليا يتغلّبان على ما فرّق والديهما ويبدآن معاً رحلة هروب وبحث، فيما أورلاندو وأوليفر، الشقيقان، يطارد أحدهما الآخر ليقتله. يلتقي الجميع في الغابة، وينقشع غبار العداوات، وفي نهاية لعبة أحجيات الحب وتخميناته التي يتعهّدها شكبير في مسرحياته، يتشكّل الأزواج المُحبّة ويلتئم شمل الأسرة المشتَّتة. قبل الزفاف الثلاثي الختامي (حيث يتزوج أورلاندو وروزاليند، وأوليفر وسيليا، والراعي والراعية اللذان كانا صديقَين لروزاليند، عندما كانت مُتنكِّرة في زي راعٍ)؛ يأتي الرسول ليكشف أن الدوق المغتصب قد تخلّى عن سلطته ليصبح ناسكاً وذهب إلى أحد الأديرة ليطلب فيها من ربه المغفرة. يعود الدوق الشرعي إلى دوقيته، وترث ابنتا العم كل شيء، ويُدفن الخلاف العائلي الذي سمّم حياتهما. وعاشوا في سعادة من ذلك الحين.

حسنًا، كل شيء على ما يرام إذا انتهى على ما يرام، إذا ما استعرنا عنوان مسرحية أخرى لشكسبير؟ ليس تماماً. إذ قرّر أحد أكثر رفقاء الدوق المنفي إخلاصاً، واسمه جاك الحزين، البقاء في الغابة، مع الدوق الذي تحوَّل ناسكاً، على الرغم من عدم فهم سيده لقراره. لماذا يريد أن يبتعد عن هذه الأجواء الفرحة والخواتيم السعيدة؟ ربما لأنها أجمل من أن تكون حقيقية، لأنها علامة على انسجام زائف حيث لا يكشف التحوّل السهل للسلطة إلا عن فراغها التام.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024