بشير هلال..سيرة زهر اللوز

بشير البكر

الإثنين 2020/05/18
لم أعد أتذكر اللقاء الأول بيني وبين بشير هلال. لكني، قبل أن نتقابل، سمعتُ عنه في أوساط لبنانية وسورية في باريس حين وصلتها في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. كان اسم بشير يتردد بين اللبنانيين اليساريين من شباب الحزب الشيوعي الذين بدأوا يبتعدون عن الخط الرسمي للحزب. بشير أحد المعترضين على التقارب بين الحزب والنظام السوري. أخذه هذا الموقف إلى سيرة سياسية ثانية لحياته، لكنها في الوقت ذاته، ثقافية وإنسانية، فيها قدر كبير من المراجعة، قادت إلى نقلة نوعية نحو مشروع مختلف. وذهب به وعيه النقدي، وتأهيله كقانوني، وعينه الباريسية، في رحلة ذات زخم وتعدد في الاهتمامات، وسعة في الرؤية أبعد من قضايا لبنان الداخلية، نحو سوريا وفلسطين والعراق، في اتجاه الديموقراطية وحقوق الانسان ومواجهة الاحتلال.

أذكر جيداً محطات كثيرة جمعتنا معاً في باريس. وكانت فيها "مكتبة المتوسط"، مقر عمل بشير اليومي، نقطة اللقاء. وهي علامة استراتيجية في الحي اللاتيني على مقربة من "معهد العالم العربي" في نهاية بولفار سان جيرمان، وعلى بعد أقل من مئة متر من نهر السين. وفي المحيط القريب جداً من معالم معروفة في باريس، مثل جامعة جوسيو، الكوليج دوفرانس، السوربون. وفي كل هذا التنوع، يبقى الحي اللاتيني، احد أهم معالم باريس السياحية وذاكرتها الثقافية والفنية والفكرية. وتظل فضاءات الحي الأكثر جاذبية للمهتمين بالشؤون الثقافية والفنية والنشاطات والتجمعات السياسية، وكانت "مكتبة المتوسط" نقطة اللقاء الأولى التي تتفرع منها الفعاليات كافة، حتى أنها نافست "معهد العالم العربي" في بعض الأحيان، من خلال النشاطات التي كانت تنظمها، وتجاوزت المعهد في البعد السياسي. وفي حين كان المعهد، مؤسسة يحضر فيها الجانب العربي الرسمي، كانت المكتبة ملتقى للمُعارَضات.

مرّ على المكتبة وشارك في أمسياتها السياسية والثقافية، عدد كبير من الكتّاب والصحافيين والسينمائيين والسياسيين. من بينهم جوزيف سماحة، سمير قصير، كريم مروة، رياض الترك، عمر أميرلاي، الياس خوري، فواز عيد، خليل وسلوى النعيمي، رائد فهمي، كاظم جهاد، صبحي حديدي، صلاح ستيتية، ايتيل عدنان، ممدوح عدوان، أمجد ناصر، يوسف عبدلكي..الخ.

لم يزر أحد باريس من جو اليسار في السياسة والثقافة والأدب من لبنان وسوريا، ولم يعرج على "مكتبة المتوسط" التي كانت ملتقى لشباب حزب اليسار الديموقراطي اللبناني، والذي كان بشير أحد مؤسسيه العام 2004 ورموزه القيادية في فرنسا التي جعلت من تنظيم حديث العهد محركاً أساسياً للنشاطات السياسية في فرنسا. ومن موقعه داخل هذا التيار، كان بشير مؤمناً، ويعمل، على وحدة نضال اللبنانيين والسوريين، وهذا التوجه كان في صلب تفكير رموز أخرى في اليسار الديموقراطي، مثل سمير قصير وزياد ماجد والياس خوري. وفي هذا السياق، شكلت المكتبة منصة سياسية ثقافية معارضة لبنانية سورية، انشغلت على نحو خاص في تسليط الضوء على سياسات النظام السوري، ليس بوصفه نظام وصاية على لبنان فقط، وإنما من منظور أنه لا يمكن إحداث انتقال سياسي فعلي في لبنان من دون حصول ذلك في سوريا أولاً. وثبتت صحة هذه الرؤية حتى يومنا هذا.

لا تسير في مظاهرة في باريس ولا تجد بشير هلال موجوداً فيها، ولا يمكن أن تكون هناك تظاهرة ثقافية أو سياسية لا يكون له فيها رأي وحضور ومشاركة. كان متعدداً ومنفتحاً ومتابعاً، ولذلك كان مقام المكتبجي عبارة عن شخصية ظل متواضعة لوجيه ارستقراطي وناشط ديموقراطي يعمل بتفان شديد وبلا كلل، وهذا يفسر أنه لم يكن تاجر كتب بقدر ما كان مروجاً ثقافياً، لا يبحث عن الربح المادي، وإنما عن وصول الكتاب العربي في باريس. الثقافة مهمة ورسالة، وليست دوراً أو ظيفة. هكذا كان يفكر هذا الرجل، ولذا لم يجنِ أو يشكل ثروة على غرار تجار الكتب الآخرين من أصحاب المكتبات. بل وصل به الحال أنه ما عاد قادراً على دفع إيجار المكتبة، وتخلى عنها، وهنا بدأت رحلة أخرى في حياة بشير. تغير الإيقاع، وضاقت الدائرة إلى عدد محدود من الأصحاب، وحتى المكان اختلف. لم يعد الحي اللاتيني هو مكان المواعيد واللقاءات، بل صارت المقاهي المجاورة للبيت. عابر في كلام عابر، ولك شيء مؤقت.

بشير هلال عنوان وملتقى وذكرى ربيع بيروت ودمشق، وزهر اللوز الذي كان يرنو إليه قبل أن يرحل تاركاً ألماً لا يبرح قلوب أصدقائه ومعارفه. كانت أبوابه مشرعة على الدوام. باب القلب وباب المكتبة وباب البيت وباب الدنيا والمعرفة. وبقي حتى اللحظة الأخيرة مستمعاً أكثر. وحين يتحدث فهو كالفلاسفة والمتصوفة الذين يقطرّون الكلام، ولا ينشدون أبعد من المعنى النافع.

على المستوى الشخصي، كان بشير يمتلك كياسة استثنائية واهتماماً نادراً بالآخرين. وله من كرم أهل الجبل وفصاحتهم وأدبهم ولطفهم، الكثير. ومن المحاماة التي درسها، اختبر ميزان الحق، ولذا لم يسقط من حسابه التسامح الذي كان أحد عناصر شخصية هذا الكائن الفريد الذي جاء الى باريس العام 1984 كي يتقي حروب لبنان، ولأنه كان لا يحب ركوب الطائرات، رحل في باريس تاركاً شاهدة على مروره، حيث سرنا في محيط "معهد العالم العربي"، وكلما استعدنا شريط العمل السياسي والثقافي طيلة العقدين الأخيرين.

حياة بشير هلال كانت قصيرة تشبه سيرة زهرة اللوز الذي يبيح بياضه في أواخر ليالي شباط، أقصر الشهور وأكثرها حلكة وعصبية وأذى. ولما كان اللوز مواسم تتجدد، سيبقى هذا الرجل الذي غادرنا من دون وداع قبل خمسة أعوام، وعداً دائماً بالربيع والصداقة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024