رقمنة الفن: التقنية والترفيه قبل الإبداع

يارا نحلة

الخميس 2021/02/25
كثيرة هي الممارسات الفنية التي قاومت السطوة التكنولوجية والرقمية في العقد الماضي، معتبرةً التواصل المادي والمباشر مع الجمهور جزءًا لا يتجزأ من التجربة المادية، لا سيما في عالم المسرح والفنون الجميلة. لكن أزمة كورونا التي حلّت علينا منذ عام، أجبرت القطاع الثقافي على التراجع عن تحفظه، وإعادة النظر في ثنائيات مثل "المادي/الرقمي" و"التقارب/ التباعد".

السؤال الذي شغل العاملين في القطاع الفني هو "كيف يمكن جعل التكنولوجيا أكثر تعبيراً؟" فانتقال الوسيط الفني الى الحيز الرقمي ليس كافياً بذاته، بل هو بحاجة الى ملاءمة التكنولوجيا لمحتواه ووسائله. يتجلى هذا في استخدام بعض المتاحف والغاليريهات لتقنية VR (الواقع الإفتراضي) التي تسمح بالتمعن في الأعمال الفنية على نحو أفضل وأدق، من معاينتها على عجل في متحف مكتظ. كذلك الأمر بالنسبة إلى المسرحيات والعروض الغنائية والراقصة التي وجدت نفسها مضطرة إلى التخلي عن أحد الشروط الأساسية للمسرح، وهو التواجد الجسدي للجمهور.. فالمسرحي ما عاد يخاطب الجمهور مباشرةً، بل عبر الكاميرا، وهو نوع جديد من الحوار يتطلب توظيفاً جديداً لعدسة الكاميرا، يختلف عن ذلك المستخدم في السينما والتلفزيون.

في مقابل القيود المفروضة على صنّاع الفنون، يجد المستهلك نفسه أكثر حرية في انتقاء خياراته غير المنوطة بالمكان أو الزمان. يتمتع المستهلك بسلطة أكبر على المحتوى الرقمي وشروط استهلاكه، فمع اتساع لائحة خياراته، أصبح قادراً على فرض شروطه بشأن الشكل، النوع، المضمون وحتى الجودة. وبات المحلي ينافس العالمي، ما يجبر صنّاع الفنون على تحسين جودة أعمالهم، خصوصاً إن أرادوا بيع بطاقات لمشاهدة العمل. الا أن هذا التوجه الرقمي، أدى الى وفرة المحتوى المجاني، ما يسمح لكثرٍ منا الوصول الى أعمالٍ فنية لم تكن متوافرة في بلادنا أو لم تكن ضمن إمكاناتنا الاقتصادية.

ويتعزز هذا التوجه المعني بالجمهور ومزاجاته، بفعل سهولة دراسة هذه المزاجات عبر الوسائل والتقنيات الرقمية التي تتيح تتبع الأنماط الاستهلاكية للجمهور والعمل على أساسها. الا أن في ذلك خطورة تتجسد في انصياع كافة الانتاجات الثقافية الى مبدأ الـ"views" (المشاهَدات) بعدما كان محصوراً، الى حد ما، في المحتوى المعروض في منصات التواصل الاجتماعي. لكن من جهة أخرى، تستفيد بعض المجالات والأعمال الثقافية التي لا تحظى بشعبية الـmainstream من تحررها من قيود المكان واستقطابها لجمهور متناثر في شتى بقاع الأرض. ومهما كان هذا الجمهور صغيراً أو مشتتاً، فإنه حين يجتمع في إحدى غرف zoom، يضحي مجتمعاً مصغراً له مكانه وتفاعلاته واهتماماته.

في تنافسها للفت انتباه الجمهور الذي اتسع نطاقه بشكل كبير، راحت المؤسسات الثقافية تبحث عن أدوات لجذبه والتفاعل معه. مثال على ذلك، هو تحدي متحف "غيتي" الذي دعا الناس الى إعادة رسم لوحات شهيرة في منازلهم، وهي استراتيجية اعتمدتها متاحف عديدة. كما لجأت مساحات فنية أخرى الى تقديم جولات افتراضية في حرمها، مستخدمةً التقنية ثلاثية الأبعاد 3D. ومن النماذج التفاعلية الناجحة في التحول الرقمي، منصة "كاريوكي" التي بثت على نحو متواصل، طوال 24 ساعة، لائحة من عشرات آلاف النغمات، متيحة للمستخدمين من أنحاء العالم الانضمام الى حفلة الكاريوكي المجانية. هذا بالإضافة إلى المهرجانات السينمائية، ومنها "صندانس" و"كان"، التي استغنت عن الشاشة الكبيرة وكسبت في المقابل أعداداً مضاعفة من الشاشات الصغيرة.

ولعل أكثر الممارسات الفنية المثيرة للشفقة في الوقت الحالي هي المهرجانات الموسيقية التي تعتمد على التفاعل المتبادل مع الجمهور. لكن حاجز التباعد الاجتماعي لم يثنِ المهرجانات الكبرى عن إجراء دورتها السنوية وإن بنسخة رقمية تحمل الكثير من المؤثرات والتوظيف التكنولوجي لتمييزها عن فيديوهات "يوتيوب"، مثل مهرجان Tomorrowland للموسيقى الالكترونية الذي كان يجمع حوالى 400 ألف شخص في مكان واحد. ومع تحوله في العام 2020 الى مهرجان عالمي غير محصور ضمن حدود الدولة البلجيكية، واستخدامه لتقنيات متطورة في "التصميم ثلاثي الأبعاد والمونتاج وألعاب الفيديو والمؤثرات الخاصة"، نجح Tomorrowland في استقطاب ضعف جمهوره الذي تخطى المليون شخص.

أما على المستوى اللبناني، ونظراً للنقص في الموارد ورداءة الانترنت، يصعب على معظم الفنانين والمؤسسات الثقافية ملاءمة نماذج عملهم مع التقنيات الرقمية. كما أظهر سلوك الجمهور اللبناني في السوشال ميديا، اهتمامه بالمحتوى الترفيهي السهل والفكاهي على وجه الخصوص، كما هو الحال في إطلالات "طوني كتورة" التي تحصد يومياً عشرات آلاف المشاهدين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024