"فوتوميد- 2017" في بيروت: حروب وحوريات

جوزيف الحاج

الخميس 2017/01/12
يفتتح مهرجان الصورة المتوسطي "فوتوميد- 2017" دورته الرابعة في بيروت (20 كانون الثاني-  8 شباط 2017)، وعلى جدران صالاته أعمال فوتوغرافية أوروبية ومحلية  متوسطية.
تكرّم الدورة الحالية، الفرنسي مارك ريبو (1923-2016)، أحد كبار مصوّري التحقيق الصحافي في القرن الماضي. صوّر في أرجاء العالم، متعاطفاً مع قضاياه، وملتقطاً صوراً تاريخية، من بينها ثورة الجزائر. صوره المعروفة لا تحصى. كان الغربي الوحيد الذي غطى حرب فيتنام من جبهتيها المتقاتلتين. بدأ جولاته المتوسطية في خمسينيات القرن العشرين ملاحظاً أن الزمن فيه لا يتحرّك رغم بعض نبضات حداثية بدأت تصدّع ثباته العميق. في صوره المتوسطية سكينة فجر العالم بعد قرون من تراكم الحضارات. شمس تنتصف قبة الشرق والغرب، صور بارعة تقبض على أحاسيس ملطّفة.  

ترأس "ماغنوم". نشر أكثر من 15 كتاباً مصوراً. قال: "لا أؤمن بالموهبة، بل بالنزعة الفطرية إلى الأشكال، أكثر من إيماني بالعقل. لا تستطيع الفوتوغرافيا تغيير العالم، بل بإمكانها إظهار متغيّراته".  

آلان فليشر (1944)، فرنسي، كاتب ناقد مخرج سينمائي ومصوّر. درس الأدب المعاصر والأنتروبولوجيا. له العديد من المؤلفات والأعمال السينمائية. من بين قلة من المصورين الذين نسجوا علاقات بالمدن والحواضر العالمية. لم ينقطع عن عمله في السينما. صوّر جدران روما بعدما عرض على واجهاتها مشاهد من أفلام أُعدّت في أستوديوهاتها الشهيرة "سينيشيتا" تتناول المدينة نفسها أخرجها فلليني، أنطونيوني، وايلر... مستعيداً ديكوراتها التي لعبت أدواراً أساسية في هذه الأفلام. جعل فليشر من جدران المدينة شاشات حجرية خلدت تلك الأعمال. يعرض فليشر صوراً أكثر مما يلتقط. يتجول في العالم مع كاميرته وجهاز عرض يسلطه على واجهات الأبنية، يعرض مشاهد ضوئية.

سرجيو ستريزي: منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى رحيله في 2004، وثّق تصوير أروع الأعمال السينمائية لكبار الطليان: دو سيكا، سكولا، كافاني، بالإضافة إلى ثلاثة أفلام لأنطونويني. العمل مع هذا الأخير لم يقتصر على إلتقاط لحظات متتالية من التصوير. بل تناول ستريزي لقطاته بعناية وبعد تأمل، كأنها عمل مستقل لا علاقة له بالمشهد التالي. لم يستطع الإثنان أن يتعايشا على نفس الخشبة. رغم ذلك حافظ ستريزي على مناخات أنطونيوني، متنقلاً بين أناقة الأسود والأبيض الرزينة والزاهدة، وبين ميل الألوان إلى الحياة. دخل إلى أعماق شخصيات أنطونيوني التي تساكنها العزلة، حتى في حالات العشق. توصّل إلى إلتقاط الإحباط الكامن خلف غنج ماستروياني. وحدهن النساء لفتن نظره. مَن صوَّر جان مورو مثله، ومن أظهرهيام نظرات مونيكا فيتي؟ حظ أنطونيوني أنه وجد في ستريز شريكاً آخر من قامته.

جوليو ريموندي في "بيروت الليل". لم تعد المدينة كما كانت من قبل: تداعيات الحروب، تخطيط عشوائي، وتحولات الأماكن التي كانت رمز جمال المدينة حتى السبعينيات. أفسحت القصور القديمة العائدة لنهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين مكانها للعمارات الحديثة.  رغم ذلك فبيروت الليل مختلفة: إنارة ليلية شحيحة، نسيم منعش، غياب زحمة السير، عودة الحياة إلى الشارع... ما يضفي على المدينة حلة أخرى. تلك هي بيروت بنظرة الإيطالي ريموندي، الحريص على البعد الإنساني لكل ما يمثل أمام كاميرته. "عملت ليلاً لأنه في ظل العتمة تمحى الحدود بين الأماكن المختلفة في النهار. فيها شيء من بيروت قبل الحرب يطفو إلى السطح. كأن المدينة القديمة لا تزال قيد الحياة تحت الحالية" قال، كأنه يصوّر زمناً معلقاً.  اختار السود والأبيض، اللقطات المقرّبة، الضبابية والعديد من مشاهد الإنتظار. لا وضوح للزمن في صوره من دون أن تنفصل عن روح المدينة. توصّل ريموندي إلى القبض على مناخ المدينة العاصي بطبيعته على البصر.

ريتشارد دوما "متتاليات متوسطية": في زمن تحتل فيه الصورة الذاتية مكانتها، نجد قلة من المححترفين، أحدهم دوما الذي يعتبر، مثل ريتشارد أفدون، أن البورتريه هي صورة شخص يعي بأنه يقف أمام الكاميرا، وأن ردة فعله تجاه هذه التجربة مهم كما المظهر. لذلك هو دوماً متهيء لتصوير تعبير أو حركة.  لا يزال وفياً لكاميرا وفيلم تقليديين. يهتم بحقيقة اللحظة أكثر مما يعنيه تمثيل الشخص الذي يصوره. لذلك يتآلف مع الموقف والمكان والضوء. شخصياته متوسطية يتقطها أثناء مهرجان كان السينمائي، منذ التسعينيات حتى اليوم. يعشق التباينات اللونية، والحالة الداخلية والرقة التي تغلّف شخصياته من دون التلهي بالبحث عن التأويل، إذ إنه لا يفترض افكاراً مسبقة عنهم.

فيران فريكسا، إسباني حافظ على نشأته كرسّام أكاديمي يميل إلى مواجهة الموضوع والتأليف المتوازن والحدس بالضوء. مرور الوقت هو ما يريد إلتقاطه من خلال الأطلال. في صوره أماكن متروكة، تستعيدها الطبيعة ببطء. يحاصرها بتأطير ضيّق، مميزاً لعبة الخطوط والأشكال، مستعيداً بلاغة الرسم.  "كل صورة هي إستثنائية لأنه لن يبقى شيء من المشهد في الغد" قال. لا تحركه جمالية الأطلال بقدر ما تثيره شهوة الحفاظ على أثر، أو شهادة هشة عما كان.

نيكول هرتزوغ- فيري " تحدي الحجر"، حملت عشق جبال موطنها سويسرا إلى لبنان بلد الحجارة القديمة بالمعنى النبيل للكلمة. إيقاعات بالأسود والأبيض شكّلت هذا النبل بعيداً عن التاثيرات السهلة. أعمدة، كتل صخرية، مرتفعات، آثار، وسماء وحدها جديرة بكل ذلك. غيوم تخط هندسيات معقّدة تتناغم مع الهياكل المهجورة. الأشجار تنافس الحجارة، حية، رقيقة.  تغيب الكائنات، تاركة آثار عبورها. تجاور القديم والجديد مفارقة محلية. مساكنة الماضي تجربة وتحدٍ دائم.

نيك هانس في "حوريات مزيفة وغرق حقيقي" سار على خطى يوليس. ولّى زمن المغامرات الأسطورية وحلّ السياح مكان المغامرين. الشواطئ المتوسطية في صوره هانس هي ممالك مدهشة ومصطنعة. كأن أناسها ليسوا من هذا العالم. أجسادهم ابتلعتها السمنة. رحلة لم تأت بفتوحات، لا بيارق ولا أقواس نصر بل مظلات ملونة تملأ الشواطئ. جدران تعزل أولئك الذين خلقوا هنا لا ليفرحوا. جنوبيو متوسط هانس يعبرون التصدعات، حاملين آثار خدوش أسلاك شائكة، بسبب الحروب والإحتلالات وكل أصناف الإستغلال. يعبرون في زوارق صغير تهزها أمواج المراكب الضخمة. مهاجرون لا يحصون ينشدون أغاني بحار قاسية وجهتهم لامبيدوزا. عنف الألوان يعكس عنف البشر. يشهد المصوّر على ذلك من دون مبالغة أو وجوم. تواضعه لا يُلفت إلى بناء صوره المكتملة التي لا تجد ضالتها في إدهاش العين، بل تذكّر بأقدار أهل المتوسط.

وسيم غزلاني في "بطاقات بريدية من تونس": صور هي نقيض البطاقة البريدية، مربعة الشكل وليست مستطيلة. لا صور منها تُظهر مكاناً أو معلماً تونسياً معروفاً. هي صور أمكنة لا صلة لها بالإعلان السياحي. لا سماوات زرقاء ولا شمس ساطعة، ولا ألوان باهرة، لا مشاهد بحرية أو حرفيين مبتسمين. ألوان مطفأة ومشاهد تافهة. يسخر غزلاني من كليشيهات تختصر الوطن، طارحاً نظرة أكثر واقعية للواقع الحالي. يحرص على رشاقة الصور وتحفّظها: أرجوحة خالية تعيد للذاكرة طفولة ضائعة، وطريق طويل مرادف للزمن المنصرم.  صور يصعب وصف مناخاتها إلاّ إذا خاطرنا  بإختصارها بمفردة واحدة "الحنين".

"خليط" لكريستين علوي والدة المصورة المغربية التي قضت منذ عام في عملية إرهابية. قبل رحيلها اختارت ليلى صور والدتها الملتقطة في السبعينيات ورممتها. تندرج في خانة الفوتوغرافيا الإنسانية الفرنسية. لحظات ملأى بصدمات انفعالية، تذكّر ببراساي ومييروفيتش... الذين ورطت صورهم المشاهد في ألفة حميمة وحساسة. العنوان مستوحى من الخليط الثقافي والحضاري للمتوسط.

"دروب بلا حواف"، عمل جورج عودة، عن المدينة عندما تمتد دون إنضباط، مثل بيروت، يمكن أن تُذهل بأبنيتها الشاهقة، وإزدحام شوارعها وكثافتها السكانية. حتى إذا صور في قلب حاضرة شرق أوسطية، ليست هذه صورة المدينة التي يرغب عوده في نقلها. حتى بين الأبراج وفي ورش البناء شبه المهجورة، يلمع ضوء المغيب الأصفر. أزهار رقيقة تنبت في تصدعات الإسمنت. أطفال وشباب سوريون بدوا كأنهم في عالم جديد يذكّر بإعادة قراءة معاصرة لتحولات أوفيد وكريستوف أونوريه. صوّر عوده اللاجئين الذين أجبروا على ترك وطنهم هرباً من الحرب. نظرته إنسانية حرصت على صون كراماتهم.

لارا تابت "قصب": تناولت الجسد والجنس والهامش. موضوعها المشارك حققته في 2012، يشبه موضوعاً صوره ياباني عنوانه "حديقه". يُظهر الموضوعان لقاءات ليلية سرية في قلب المدينة، ويثيران تساؤلات عن دوافع العشاق للقاء في الخارج. هل هي نزعة مرضية؟  إستحالة اللقاء بحضور الأهل؟ هل هو الخيار الأخير المتاح؟ تتجنب تابت التلصص فتتحوّل إلى مشاركة في هذه اللقاءات الليلية. صور ليست مجرد شهادات وثائقية، بل غموض والتباس وتساؤلات: ماذا نشاهد في الحقيقة؟ أين الخط الفاصل بين الواقع وتمثيل الأدوار؟ بتحولها إلى ممثلة لصورها تفتح تابت الباب للخيالي.

يروي "العودة" لبلال طربيه قصة عودته إلى الوطن في 2015.  الفوتوغرافيا واسطته للتكيّف مع بيروت. من الشارع إلى حميمية الداخل. تأثّره بالمصور باولو بلليغرين واضح في إختياره الأسود والأبيض والصور المرتجة. يقول طربيه إنه متأثر بالقصص المصورة خصوصاً رسوم إنكي بلال ورسامي المدرسة الأميركية. طربيه من المصورين الذين نادراً ما يرجعون إلى تاريخ الفوتوغرافيا مفضلاً المقاربة الفطرية. سرد "العودة" سيرتين: جغرافيا حميمة ذاتية، وأخرى عالمية، لتجذر موضوع العودة في الثقافة المتوسطية الضاربة في التاريخ القديم.

اختارت دانيال عربيد في عملها "فتيات غريبات" تذكّر لحظات التصوير السينمائي السريعة باستخدامها الصورة الثابتة. صورها ضبابية ملتقطة عن قرب، حارّة الألوان، مؤثرة، مشاهد متتالية للحظات منفصلة.  المدينة حاضنة اللقاءات والإحتفالات، من دون تحديد هوية المكان، بيروت أم باريس أم مكان آخر استوحى ميتولوجيا السهر والليل الباريسية؟ إنه الليل، فيه تتشابه المدن. فيض من مصابيح النيون تضيء الظلال والوجوه تضعها بين الإغراء والإرهاق. تصور عربيد فوتوغرافياً كما أشرطتها السينمائية: مقتربة من الأجساد، خصوصاً أجساد النساء. نساؤها اللواتي لا يخشين شيئاً... كل ما يعشقنه يحفرنه أوشاماً على أجسادهن.  صور تذكّر أنه في قلب الليل تخفق القلوب سريعاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024