آخر أمرائنا في الأرجنتين

شادي لويس

الجمعة 2019/01/11
كان الرجل يحاول أن يخبرني بإنكليزية واضحة، وإن كانت بسيطة، بأني في الطريق الصحيح إلى المقبرة، كل ما عليّ فعله هو السير في خط مستقيم حتى أصل لسورها، لكن مع هذا، كان يعتقد بأني متجه إلى المكان الخطأ. فهو حزر، من كلماتي الإسبانية القليلة والمتعثرة، أني سائح، والسائحون عادة يقصدون مقبرة "ريكولتا"، الأشهر في بوينس آيريس، لا مقبرة "شاكريتا" التي كنت متجهاً إليها. فالأولى، بالإضافة إلى احتوائها عشرات المقابر التي حولتها الدولة شواهدَ قومية، نظراً لأهمية أصحابها التاريخية، فإنها أيضا قِبلة لمريدي إيفيتا بيرون من أبناء البلاد وزوارها. فجسَد قديسة الفقراء، الذي حنطه زوجها، وخطفه الجنرالات بعد الإنقلاب العسكري ضده، وأخفوه حيناً، ثم نقلوه سراً للدفن في إيطاليا بهوية مزيفة، كان قد عاد في النهاية ليرقد في "ريكوليتا"، ببعض الكرامة، وقليل من الهدوء الذي لطالما بدّدته طوابير السائحين المتلهفين لالتقاط الصور.

لكني كنت في طريقي إلى المكان الصحيح بالفعل، فالقبر الذي كنت أبحث عنه، من المفترض أن أجده في "شاكريتا". كان الوصول إلى هناك سهلاً، لكن، وبمجرد اقترابي من البوابات المرتفعة أعمدتها كمعبد يوناني، أدركت صعوبة مهمتي، وربما استحالتها. فالمقبرة شاسعة، ومقسمة إلى شبكة من الشوارع المستقيمة الضيقة التي تصطف على جوانبها المدافن في حجم بيوت صغيرة. المكان أشبه بمدينة كاملة للموتى، وكنت أبحث عن أحد سكانها الذي لا أعرف عنواناً له.

ظننتُ أن الجانب الشرقي من المقبرة ربما يكون المكان الأنسب للبحث. ففي مدن أخرى، عادة ما تصطف قبور المسلمين، جنباً إلى جنب، في هذه الجهة. لكن قيظ ديسمبر المحرق، كان قد اجهدني بعد التجول في شوارع الناحية الشرقية، وقررت أن اتتبع الأسهم التي تشير إلى "الغاليري"، يحدوني فضول لمعرفة نوعية المعروضات في مكان كهذا. وقادتني قدماي إلى وسط المقبرة، ووجدت أمامي هياكل خرسانية ضخمة وهائلة الاتساع، تتكون من بضعة طوابق تحت الأرض، بدت مثل مواقف السيارات متعددة الطوابق. لدقيقة أو أكثر، لم أتبين وظيفة القاعات ذات الأسقف شديدة الارتفاع، والتي دلفتُ إليها في واحد من تلك الطوابق، ولا وِجهة استخدام الأدارج المربعة التي احتوتها جدرانها. لكن الرائحة المقبضة المشبعة بثقل الموت، والتي ألقت بكامل ثقلها على المكان، سرعان ما نبهتني إلى طبيعة المعروضات. كان مشهد مئات التوابيت، المصفوفة واحداً فوق الآخر في كل الاتجاهات، كفيلاً بدفعي للاستسلام، والقبول بفشل مهمتي، وبدأت رحلة الخروج من "شاكريتا".
 
وعلى مشارف المقبرة، وكقصة تبدو مفاجأتها هي الأكثر توقعاً، عثرتُ على القبر الذي كنت أبحث عنه. الزخارف الشرقية التي تغطيه، والكتابة العربية التي تعنون شاهِدَه، لا يمكن أن تفوت العَين: "المرحوم الأمير أمين أرسلان". 

بعدها بيومين، كنت أتمشى في حي "لابوكا"، متجولاً بين بيوته زاهية الألوان، والتي جعلته أحد مقاصد المدينة السياحية الأشهر. هناك، سكن المهاجرون العرب الأوائل، مطلع القرن العشرين، ومن هناك انطلق حشد من أبناء الجالية العربية في 29 أكتوبر 1910، في مسيرة إلى ميناء بوينس آيريس، وقبل الوصول إلى هناك التقوا بمسيرة آخرى كانت انطلقت من قاعة "الشباب العثماني"، ضمت أعضاء من "الإتحاد السوري" و"الجمعية الإسرائيلية (اليهودية)". قدّرت الصحف الأرجنتينية العدد، في اليوم التالي، بأربعة الآف من المحتشدين لاستقبال وصول الباخرة "تشيلي"، التي كانت تقل السفير العثماني الأول إلى الأرجنتين، الأمير أمين أرسلان نفسه. وكان المشهد بهيجاً، كما وصفته الصحف. فسكان المدينة تابعوا من الشرفات، الموكب الذي عزفت فيه فرق المحتشدين الموسيقية، النشيدين الوطنيين العثماني والأرجنتيني، بالإضافة إلى نشيد المارسيليز.

وبعدها بأسبوع، عثرت بالصدفة على البيت الذي سكنه أرسلان، حتى وفاته العام 1943. ففيما كنت في طريقي للقاء أصدقاء في حي "باليرمو"، اصطدمت عيني بلافتات مكتوبة بالعربية على المبنى ذي الطوابق الثلاثة: "مجلس الطائفة الدرزية"، وفوقها "الجمعية الخيرية الدرزية" التي أسسها أرسلان ومازالت تعمل إلى اليوم في المبنى الذي سكنه.


 
لم تستمر بهجة أبناء الجالية العربية، الذين يشار إليهم حتى الآن بـ"توركو" - أي الأتراك، بقنصليتهم الجديدة، ولم يستمر أرسلان في منصبه طويلاً. في العام 1914، استقال آخر أمرائنا في الأرجنتين من منصبه، اعتراضاً على دخول العثمانيين الحرب إلى جانب الألمان، وفي المقابل عاقبته الآستانة بحكم غيابي بالإعدام. أما الحشود التي استقبلته، فسرعان ما تصادم أفرادها في شوارع بوينس آيريس، في تظاهرات مؤيدة للثورة العربية أو ضدها، ولاحقاً جرت صدامات بين الحالمين بسوريا الكبرى وبين مؤيدي الانتداب الفرنسي على لبنان. وبالطبع، لم يعد يخرج أبناء "الجمعية الإسرائيلية" مع "الاتحاد السوري" في مسيرات واحدة.

"أميرُك كان صديقاً لبورخيس"... رسالة تلقيتها على هاتفي، قبل أسبوعين، من صديقة أرجنتينية، أرفقَتها بمقال بالإسبانية عن أرسلان، وقد ترجمَته إلى الإنكليزية من أجلي. فالرجل الذي تسرد سيرته، تقلبات المشرق العربي في زمنه، وصعود الأحلام وتحطمها، كان قد بدأ في تعلم الإسبانية عند وصوله. وفي العام 1917، كان قد نشر روايته الأولى بها، بعنوان "نهاية الغرام". هجر أرسلان السياسة، رويداً رويداً، إلى الأدب، وطرح حلمه بسوريا كبرى، مكتفياً بالحصول على الجنسية الأرجنتينية. وبين أنشطة أخرى كثيرة، ضمنت له مكاناً بين رواد أدب وطنه الجديد، أسس مجلة "لانوتا" الأدبية، التي كتب فيها أشهر الأدباء الأرجنتينيين.

وفي نهاية المقال، يشير الكاتب إلى أن أرسلان كان يحب الطبيعة في سواحل الأوراغواي، حيث أمضى الكثير من عطلاته. ولا عجب إن أحد شواطىء مدينة "بونتا ديل إيستي" تحمل اسم "أمير" حتى اليوم. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024