"المطر القديم" لبوب كوفمان...سردينٌ ذهبيٌّ يَسْبحُ في رأسي

المدن - ثقافة

الأحد 2020/11/22

صدر لدى دار الرافدين في العراق، كتاب "المطر القديم" للشاعر الأميركي بوب كوفمان، ترجمة الشاعر المغربي الحبيب الواعي... هناك جزء من تقديم المترجم.


يعود اهتمامي بحركة جيل البيت Beat Génération إلى اطلاعي المبكر على أعمال ألين غينسبرغ، جاك كيرواك، ويليام بوروز، لورنس فيرلينغيتي، مايكل ماكلور، غريغوري كورسو، أميري بركا، ديان دي بريما، جوان كايغر، غاري سنايدر وغيرهم، خلال دراستي بالثانوي التأهيلي حيث انشغلت بأسئلة مقلقة لها علاقة بالظروف الاجتماعية المزرية لأسرتي الامازيغية، التي ينحدر كل أفرادها من الطبقة العاملة، وكانت تسكن في قرية أمازيغية صغيرة، تكاد لا تتوفر على أبسط شروط العيش. أتذكر أن قريتنا كانت معزولة عن العالم الخارجي حيث لا طريق معبّدة تأخذ إليها ولا مستشفى يأوي النساء الحوامل؛ منذ ذاك الحين كنت أفكر في الظرف الوجودي البئيس وغياب الإعتراف بالآخر المختلف والعدالة الإجتماعية وعدم تكافؤ الفرص، مما دفع بي إلى البحث عن طرق مسالمة لتغيير الوضع أو على الأقل المساهمة في تحسينه عن طريق نشر الوعي  بين الأصدقاء وأفراد المجتمع من خلال الكتابة والإبداع الخلاق. وهكذا كانت محاولات كتاب وشعراء جيل البيت أقرب إلى فكرتي عن التغيير وكيفية المساهمة في الرفع من مستوى الوعي لدى أفراد المجتمع نظراً لكون هؤلاء الكتاب لم يتخيلوا فقط عالما تسود فيه قيم المساواة والتعدد والاختلاف، بل شاركوا فعليا في التغيير الاجتماعي والثقافي داخل مجتمعهم، وذلك بالإنضمام إلى حركات المجتمع المدني والمشاركة في المظاهرات المنددة بالفساد داخل أميركا وخارجها. ومما لفت انتباهي إلى حركة جيل البيت، التي ستتولد عنها حركة الهيبي فيما بعد، هو اهتمامها بالقيم الانسانية التي نتقاسمها جميعا وحرصها على الدفاع عن حقوق الأقليات على المستوى العالمي، مما نتج عنه تعاطفي اللامشروط  مع كتابها الذين يخاطبون انشغالات جيل من الشباب يتوق إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والتجريب مع جميع أشكال الحياة الانسانية ليس فحسب في أميركا، باعتبارها الدولة الأشدّ تمثيلاً لروح الرأسمالية المتوحشة، بل في البلدان الأخرى التي كبحت الأنظمة السياسية العقيمة عجلةَ تقدُّمها. 

 

يعتبر بوب كوفمان أحد أهمّ مؤسسي حركة «جيل البيت» الأدبية في خمسينيات القرن الماضي، بالرغم من أن صيته لم يذع وأعماله لم تنتشر على نطاق واسع مثل غينسبرغ وكيرواك، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى رغبته الجامحة في أن يبقى مجهولا في عزلته، كما أخبرنا بذلك الكاتب والمحرر ريموند فوي في تقديمه للديوان الذي بين أيدينا. بدأ إهتمامي بحياة بوب كوفمان وشعره بعد لقائي بالكاتبين الصديقين ماريا ديمن وريموند فوي، الذين اشتغلا على أعمال كوفمان سواء في مجال النقد الأدبي، كما هو الحال بالنسبة لماريا ديمن في كتابيها "أميركا ما بعد الأدبي،" و"النهاية المظلمة للشارع: هوامش في الشعر الطلائعي الأميركي"، أو من خلال تحرير ونشر أعماله التي خلفها كما فعل ريموند فوي؛  ومن هنا أود أن أعبر عن إمتناني لهذين الكاتبين اللذين لم يترددا في الإجابة على تساؤلاتي واستفساراتي كلما صادفت لبسا أو واجهت غموضا أثناء ترجمتي لقصائد كوفمان.

 

ولد روبرت غرنيل كوفمان في شارع ميرو في مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا في 18 أبريل 1925م. كان سابع الأبناء الثلاثة عشر وترعرع في عائلة من أب ذي أصول ألمانية- فرنسية يهودية، وأم زنجية كاثوليكية من جزيرة المارتينيك. قدمت جدته إلى أميركا في سفينة تقلّ العبيد من أفريقيا وكانت تنتمي «لطائفة الفودو»، وتمارسُ الطقوس السحرية لهذه الجماعة، وقد كان لهذا التمازج العرقي والديني المتعدد تأثيرا كبيرا على شعر كوفمان الذي يستمد مادته من الفودو والتراث الكريولي، وتاريخ الزنوج وسكان أميركا الأصليين. توفي والده بعد إنهائه للمدرسة الإعدادية وكان عمره ثلاثة عشرة عاما، ودفع به تأزم الحالة الإقتصادية للعائلة إلى البحث عن العمل بعد إنهائه للمدرسة الثانوية. بعد حصوله على شهادة الجندية البحرية عام 1942، عمل بحارًا في أسطول البحرية التجارية الأميركية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، والتحق بالإتحاد الوطني للبحارة، التابع لكونغرس المنظمات الصناعية، وبدأ يشق طريقه في المراتب حتى تم تعيينه رئيسا للجنة المكلفة بإضراب عمال الاتحاد الوطني للبحارة عام 1945، وحسب إدعاء ملف FBI عن كوفمان فقد كان يحضر دروس مدرسة التكوين التابعة للإتحاد الوطني للبحارة والذي كان مكتب التحقيقات الفدرالية يعتبره تنظيما تابعا للحزب الشيوعي. طاف الكرة الأرضية مرات عدة في ست سنوات من الرحلات البحرية الطويلة التي ملألها بمطالعة الأدب والفن والتاريخ والفلسفة، وكاد يفقد حياته فقد نجا أربع مرات من حوادث غرق السفن كان آخرها عام 1945، نتج عنها فقدانه لحاسة السمع في إحدى أذنيه. في عام 1947، نشر رسالتين في جريدة الاتحاد الوطني للبحارة إحداها تندد "بالحملة الهستيرية ضد الحزب الشيوعي" والتي تشنها لجنة الأنشطة غير الأميركية تحت إشراف مكارتي، والأخرى تقدّم مقترحاً لتعاقد جديد للإتحاد مما جعله محط أنظار مكتب التحقيقات الفيدرالية، قبل أن يُطرد  عام 1951 من الإتحاد الوطني للبحارة بذريعة الإنحلال الأخلاقي واستعمال المخدرات.

يتساءل المرء، تقول الكاتبة دفوراه ميجر، إن كان بوب كوفمان قد ولد شاعرًا، وتضيف بأنه "أخبر البعض أنه درس لفترة وجيزة في نيوسكول بنيويورك في أربعينيات القرن الماضي حيث التقى بويليام بوروز وآلن غينسبيرغ اللذين سافر معهما إلى سان فرانسيسكو،"غير أنها تستدرك وتعترف بأنه ربما كان هذا جزءا من الأساطير التي كان يخلقها كوفمانحول نفسه، فقد اعترف غينسبيرغ بأنهما لم يلتقيا إلا في عام 1959[1]. لم يكن كوفمان في حاجة إلى المدرسة والتكوين الأكاديمي فقد تربى على يد أم مدرسة تحب الأدب، ويقر أخوه جورج بأن رفوف غرفة جلوسهم كانت ممتلئة بتحف أدبية تعود لبروست وهنري جيمس وفلوبير[2]، هذا بالإضافة إلى التجربة الحقيقية التي أكتسبها في شوارع نيوأورليانز ونيويورك وتكساس وسان فرانسيسكو ومناطق أخرى على كوكب الأرض التي أبحر إليها على متن سفن عديدة. في عام 1957 يستقر كوفمان بجوار نورث بيتش بسان فرانسيسكو، حيث يلتقي بكل من غريغوري كورسو، لورنس فيرلينغيتي وجاك كيرواك، ليشتد أجيج حركة جيل البيت في تلاقيها مع حركة نهضة سان فرانسيسكو الشعرية، وسرعان ما ذاع صيت شعر كوفمان في فرنسا حيث أصبح يعرف بـ"رامبو أميركا الاسود".


في عام 1958 يلتقي كوفمان بزوجته البيضاء إيلين سينغ في شقة أحد الأصدقاء ويرافقها في رحلة تكاد تشبه زوبعة إلى المكسيك في زمن العنصرية الأميركية حيث كان الزواج المختلط محرما ويعدّ تهديداً للنظام الاجتماعي.  بعد عودتهما إلى أميركا، يستقران بميل فالي ويرزقان بإبنهما الأول باركر الذي اختار كوفمان أن يطلق عليه اسم باركر، أعظم عازف ساكسفون حينها. في عام 1959 أصدر كوفمان العدد الأول من مجلةBeatitude التي يشرف عليها مع كل من  جون كيلي وويليام مارجوليس، وفي صيف نفس العام أصدرت له مكتبة سيتس لايتس "البيان الأبومومي" و"أبريل الثاني" ثم أعقبته بنشر "هل يهمس العقل السري"، مما خلق نوعاً من الشهرة لكوفمان ودُعي للمشاركة في تظاهرات شعرية بكل من "بيغل شوب"، وجامعة هارفارد و"مقهى غاسلايت' و'رواق بيبرباك بوك' ومقر'المسرح الحي' في نيويورك، عندما كان يسكن مع كل من غينسبرغ وروبرت هانك في نفس الشقة قبل أن تلتحق به زوجته وابنه باركر. خلال هذه الفترة كان كوفمان يستعمل المخدرات، خاصة بعد التقائه بتموتي لري، وانتهى به المطاف في السجن بعد أن تعرض للضرب من قبل رجال شرطة لم يكونوا يستسيغون "البيتنيك أو البوهميين" وأسلوب حياتهم الشبيه بالمتشردين. يقول كوفمان عن تجربته في السجن في واحدة من أهمّ قصائده "قصائد السجن":

 

أيُّها الرسامُ، ارسمْني سجينًا مجنونًا، واجعل الزنزاناتِ ألوانًا مائية.
أيها الشاعر، كَمْ عُمْر الألم؟ اكْتبْهُ بالرصاصِ الأصفرِ.
يا الله، اجْعلني سماءً على سقفِي الزجاجيِ. فأنا أَحتاجُ النجومَ الآن،
لأتقدَّم خلال هذا الفضاء مِن الصرخاتِ والجحيمِ الشخصي.
….
في عالم من الزنازين- مَنْ ليس سجينًا؟ السجّانون.
في عالم من المستشفيات- مَنْ ليس مريضًا؟ الأطباء.
سردينٌ ذهبيٌّ يَسْبحُ في رأسي. 


[1]ديفوراه ميجر . "الشاعر الازلي: من الأعمال الكاملة لبوب كوفمان." مجلة بروكلين ريل. عدد شتنبر 2019.

 

[2]Maria Damon. “‘Unmeaning Jargon’ / Uncanonized Beatitude: Bob Kaufman, Poet.” Dark Ends
of the Streets: Margins in American Vanguard Poetry. Minneapolis: U of Minnesota P, 1993.
p 34.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024