بيروت توم يونغ.. مرسومة أكثر مما هي موجودة

روجيه عوطة

السبت 2020/10/03
ثمة نكتة يتبادلها بعض الصحب في لبنان، مفادها أن بيروت المرسومة صارت أكثر من بيروت الموجودة، ووضعها هذا، يتحمل مسؤوليته الرسام البريطاني توم يونغ. وبالفعل تلك النكتة، وبمبالغتها التي تبغي الإضحاك، تنطوي على ضرب من الدقة، فيونغ، الذي يقيم في العاصمة اللبنانية منذ سنوات، لا يتوقف عن رسمها، لا سيما عمارتها القديمة، أو التراثية. وهو، في الآونة الأخيرة، آونة الحوادث، من 17 تشرين الأول2019 الى 7 آب2020، راح يكثر من رسمه ذاك، متناولاً المدينة إياها بطريقة يومية أو شبه يومية. ومردّ إكثاره هذا، كما يحسب يونغ، هو حبه لها، وهو حب كبير لا شك في ذلك. لكن، وبدرايته أو من دون هذه الدراية، هو يُقدم على تجميدها. بالطبع، الحديث في هذا السياق عن تجميد لها يستكمل النكتة ذاتها من ناحية مبالغتها، لكنه لا يبغي الاضحاك على نحوها، بل إيضاح علته، أو الإجابة على استفهام: كيف يجمّد يونغ مدينته؟

الجواب على هذا الاستفهام من قبيله، أي بسيط، وبائن: بالإقدام على التقاطها. بالطبع، لا بد من التركيز في هذه الجهة على كلمة بعينها، وهي التقاط. فاستخدمها للإشارة الى أن يونغ لا يمضي الى تمثيل أو توثيق أو تصوير بيروت في لوحاته، انما التقاطها فيها على منوال كاميراتي أوّلي. إذ إن هذه اللوحات تحيل الى كون المدينة ملتقطة داخلها بعدسة مبتدئ في استخدام الكاميرا، لكنه متنكر في زي رسام، وسبب تنكره هذا، أنه، وحتى اللحظة، لم يصنع صورة للمدينة بجهازه، بل أخذها من أجهزة أخرى ليضعها في لوحاته. من هنا التقاط يونغ لبيروت غالباً ما يعني تناوله لصورتها من التلفزيون أو الإعلان إلخ. بحيث أنه يلتقط هذه الصورة، ثم يمضي الى تلوينها، أو بالأحرى الى تسييل ألوانها، لا لكي يصرف منها صورة مختلفة عنها، إنما لكي يخفيها. بعبارة ثانية، رسم يونغ هو التقاط لصورة عن بيروت ثم تلوينه لها للقول أنها ليست بصورة البتة.

وفي المطاف ذاته، قد يردد يونغ، كما في مقابلة من مقابلاته، أن لوحاته ليست كالصور الفوتوغرافية، وهذا، لأنها "إنسانية وعاطفية". فالفارق، في ظنه، بين اللوحة والصورة هو الفارق في هذه "الإنسانية"، وهذه "العاطفية". نافل التذكير أو الإشارة على عمومها الى ان الفارق بين الاثنين لا يتعلق بهذين المعيارين. فالصورة أيضاً "إنسانية وعاطفية"، أما اللوحة فلا تتغلب عليها بهما. لكن الركون الى تحديد الفارق على هذا النحو، وهو تحديد سطحي، لا يمنع ذيوع الاعتقاد به. وهو ذيوع يقصد الترويج: "إنها لوحات تضفي عواطف إنسانية على المدينة"، يُكتب هنا وهناك عنها. بالطبع، لا بد من التأكيد على كون هذه الجملة الترويجية تفضي إلى أن بيروت خارج هذه اللوحات، وأياً كان هذا الخارج، فهي بلا تلك العواطف، كما تفضي الى تعيين هذه العواطف، وبسطحية مرة أخرى، بكونها مجرد لعبة ألوان. بالطبع، الجملة إياها تندرج في سياق التطلع الى مدينة تكون بيروت، لكن من دون أن تشبهها، وبما أن تحقيق ذلك صعب، فتبقى بيروت المتطلع اليها في اللوحات، ولا تعيش سوى فيها. فعلياً، أن تكون بيروت اللوحات متوهَّمة، فهذه ليست المشكلة فيها بالتأكيد، انما مشكلتها أنها تريد تجميد المدينة على أساسها. وهكذا، يصير التقاط بيروت ليس فقط أخذاً لصورتها ثم محاولة محوها بالرسم، إنما القبض عليها كي لا تكون ما هي عليه، كي لا تكون...

فعندما لا يتوقف يونغ عن رسم بيروت ونشر لوحاتها يومياً، حتى تصير، وكما تؤكد النكتة، مرسومة أكثر مما هي موجودة.. فهذا، وبالتوازي مع كونه علامة على حبه الكبير لها، هو بمثابة منع لها من أن تكون كما هي، أي أنه تجميد لها في اللوحات. في الحقيقة، لا يمكن الحسم إن كان "لوحات" أو لوحة واحدة، وما معاودة رسمها ونشرها كأنها على جمع وتكثير، سوى محاولة لالتقاط موضوعها لكي لا يفر منها، في حين أنه يتغير ويتبدل ويتكشف مما هو  هو عليه.

فأحياناً، قد يكون رسم شيء ما بمثابة ممانعة لأن يرتسم بنفسه، أو منعاً له عن ذلك. إلا أن هذه الممانعة وهذا المنع، ومهما كثرا، لا يتحققان البتة. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024