يوميات مُكتئب سوري في ألمانيا

محمد دياب

الجمعة 2020/06/19
في صمتِ المكتئبين شيء من صمت الموت. وحين يتحاشاك مكتئب، لا تعتقد أنه يكرهك. المكتئب لا يسعه أن يكره ويفرِّط بقواه العاطفية في مشاعر عنيفة. هو غاضب، لكن غضبه صامت ومكتوم. وليس الآخرون من يغضبونه في الدرجة الأولى، بل هي نفسه التي يهزّه غضبه منها وعليها عميقاً، وحتى الجذو. فيشعر بالضيق والثقل، ويَثْقُلُ عليه الكلام والوقت والناس، الالتزامات والمهام اليومية البسيطة، وحتى الحركة. 

قد لا يقوى المكتئب على إعداد الطعام لنفسه، حتى حين يعضّه الجوع. وقد يهمل أن يستحمم، ويعجز عن تغيير غطاء سريره. ورغم إدراكه ضرورة ذلك، يستسلم للضيق والسأم، لرغبة عارمة ساحقة بالبكاء أو... الانتحار.
***
في الأسابيع الأخيرة الماضية، انفصلت تماماً عن وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية، مفضلاً الاحتفاظ لنفسي بما أكتبه. فعدت إلى الكتابة على الورق. رحت أكتب بغزارة كما في السابق، وربما على نحو أغزر بكثير. طوال ممارستي الكتابة لم تكن غايتي نشر كتاباتي. أحبّ أن يقرأ الآخرون أفكاري، وأعلم أنني غالباً ما أكتب عما يبقى دفيناً في نفس البشر طوال حياتهم. لكنني لا أحب أن يُفهم ما أكتبه على النحو الذي أريده. أكره الأفق الضيّق، الأحكام المسبقة، المصطلحات الجوفاء، انعدام الخيال، والتأويلات الغبية. لذا عزفت عن استخدام وسائل التواصل الإلكتروني.

دائماً اعتبرت الكتابة سبيلي الوحيد لأبدد من صدري قدرًا ولو ضئيلًا من الاكتئاب والتبرّم. لكنني اكتشفت أن الكتابة في الفضاء الافتراضي، وما ينجم عنه من أحكام مضحكة وسخيفة على من يكتب، يفضي إلى مزيد من التعب والإرهاق والاكتئاب، وأحياناً الندم.

أحاول دفع هذه المشاعر السلبية الساحقة عني، بأن أعيش حياة تشبه الحياة في تسعينات القرن العشرين التي أفضّلها على هذه الأيام. ولطالما وددتُ لو توقف جريان الزمن هناك إلى الأبد، وتكسّرت عقاربه على حجارة نهاية القرن. أكاد لا أمرر يدي على هاتفي المحمول إلا للإجابة على مكالمات العادية جداً، تلك التي تخصّ العمل فقط. أحاول الحفاظ على روتين يوميّ متوازن، يجعل هذه الحياة محتملة قدر الإمكان.
***
أنهض من سريري في الصباح. أدخّن بعض السجائر، استحم بماء فاتر. أنظّف أسناني، أهذّب لحيتي. فأنا أكاد لا أقابل أوروبياً إلا ويحدّثني عنها بالعبارات البليدة نفسها. لا تزال لحيتي تثير الريبة، القلق والشكوك في هذه المجتمعات المتبلّدة، الباردة والمتبجحة بالانفتاح، وتقدِّس الحريات الشخصية في كل مناسبة. أرتدي ملابسي، أعدّ قهوتي الصباحية، أنتهي منها سريعاً مع سجائر عدة. أمضي في طريقي إلى فصل دراسيّ يعدّني لعمل من نوع خاص. أقضي هناك ثلث يومي تقريباً. أكاد لا أحادث أحدًا إلا في ما ندر. ومن جملة ما أحاول التدرّب عليه: تدميرُ أناي تدميراً تاماً، العزوف عن محادثة أحد بأفكاري الخاصة، وتحجيمُ غضبي الدائم بكتمانه.

أعلم أن أفكاري نقدية متشددة جداً. مزاجي سوداوي ضيّق إلى درجة مرضيّة. ذائقتي يكاد يستحيل إرضاؤها. ومعايير أحكامي لا تخدعها مظاهر الأعمال والأشخاص.

لم أعد أُظهر حماسة أو انفعالاً عاطفياً. لا أتكلّم عن حياتي الخاصة ومشاعري حيال العالم الخارجي. أحاول الاكتفاء بأحاديث سطحية عابرة مع الناس، وغالباً ما أستعين فيها بإيماءات تغنيني عن الكلام.

أعتقد أنني بذلتُ في ما مضى جهداً هائلاً، سدىً وبلا طائل. والآن استسلمت تماماً لحقيقة بدت لي واضحة: ما من شيء قابل للتغيير. وسبق أن أجهدت نفسي وعواطفي، وأمرضت قلبي وأعصابي، في الشرح والتعبير والنقد والنقاش. لعلّني بالغت في ذلك. وها أنا أقتل عاداتي القديمة واحدة تلو أخرى، كما تدمر الحجارة في ألعاب الفيديو. لقد استُنزفتُ تماماً وسئمت إلى حدّ انعدام قدرتي على الاستمرار بممارسة تلك العادات. 
***
في الفصل الدراسي بالطبقة الأرضية، أجلس قرب نافذة تطلّ على بنايات سكنية كلاسيكية الطراز المعماري. جدران البنايات تنتصب فاصلةً بين الأكاديمية وحيّ سكني. تلازمني عادة الشرود واستعادة ذكريات طفولتي هناك، في البلاد التي هجوتها. فجأة، وبلا إرادة مني، تهجم الذكريات على ذهني. أحاول كبحها للتركيز على محاضرة عن القوانين المعقّدة في دساتير دول الاتحاد الأوروبي، تلك التي تربط بين المواطنين الأفراد، وبين الدولة والمواطن الفرد، وبين دول الاتحاد.

في شرودي استغرق مديداً في تأمل تلك الجدران العادية: أحجار المبنى الإسمنتية البسيطة، في أعلاها أحجار طوب قرميدية. تراب مهمل يتجمع في أسفلها بفعل الزمن والريح. وتلك الحشائش التي تملك القدرة على النمو في الحجر. خطوط تمتدة في اتجاهات عدة على جدار. ربما تخلّفت عن شجرة قديمة اقتُلِعت، وكانت تعرّش على الجدار الذي ينتهي بمتجر مهجور.
شارد الذهن أتأمّل هذه الأشياء، فتغمرني مشاعر كئيبة وعنيفة، تشبه الحنين إلى الماضي. وتلتفّ حول جسدي وساقيّ كأذرع أخطبوط. تجذبني إلى أعماق سحيقة مظلمة أغرق فيها، أختنق ويمتلئ جسدي بمياه مالحة، ثم يطفو على سطحها ووحيداً في الأفق، يتقاذفه موج هادر.
هذا ما يحدث عندما تضفي شمس أواخر أيار مسحةً من كآبة أزلية على الجدار في ساعة الظهيرة الهادئة. يبدو الجدار غريباً في هذا الشطر المنظّم من مدينة أوروبية، كمثل راقص في مأتم على حبل. يذكّرني المشهد بسوريا، بمدينتي الساحلية، اللاذقية، بالأرض التي غادرتها. الأرض الطيبة التي أحبّها. الأحياء البسيطة التي نشأت فيها هناك. الشوارع الضيقة. الأبنية العشوائية الملطّخة بدخان عوادم السيارات. مدرستي في الطفولة والمراهقة. 
***
في وقت الاستراحة أخرج، فأتناول من الجهاز الآلي كوباً من القهوة، بل كوبين. أدخّن مع قهوتي بعض السجائر في المكان المخصّص للمدخّنين. إلى جانبي بعض المدخنين في صفّي الدراسي. نتبادل أحاديث يشكو بعضها من سوء أسلوب المدّرّب الذي أجده غبياً متصلّباً، يشبه أسلوب ضابط قديم في الجيش السوفياتي. لكنني أحتفظ بهذا الرأي لنفسي، فلا أقوله لزملائي من الطلّاب. 

لا أذهب معهم إلى مطاعم الوجبات السريعة القريبة من الأكاديمية. فأنا لا أتناول مثل هذه الوجبات إطلاقاً. وحيداً في غرفتي أحضّر طعامي مساءً. من سنين، وبلا سبب قهري، ألتزم نظاماً غذائياً صحّياً، قد يجده البعض صارماً. لكنني لم أعد أجده كذلك. بل صار عندي أسلوب حياة مناسب لأنواع الرياضة التي أمارسها منذ طفولتي.

أترك المجموعة وأعود إلى قاعة التدريب الدراسية. أُخرجُ من حقيبتي شيئاً مما أعدتّه في الليلة الماضية. أذهب إلى المطبخ في الطبقة العلوية. أسخِّن طعامي في واحد من أجهزة المايكرويف المصطفة على قطعة من الرخام. أتناوله مع طلّاب من صفوف دراسية أخرى. لا أحد منا يعرف الآخر، فلا يدور بيننا أي حديث. أنتهي من طعامي. أغسل حافظة الطعام المصنوعة من بلاستيك صحّي الآمن. أغسل يديّ. أدخن سيجارة. أعود إلى القاعة. أجلس في مكاني. أُخرج من حقيبتي رواية ما. ظهري إلى الباب، وجهي إلى النافذة، وقبالتي ذلك الجدار الذي نشأت له في نفسي عاطفةٌ غريبة، وصارت تربط بيننا علاقة أكثر غرابة. أغرق في مقعدي. أقرأ في كتابي حتى انتهاء الدقائق الأخيرة من استراحة الغداء، في انتظار عودة باقي الطلّاب والمدرّب السمج.
بطيئاً بطيئاً تنقضي الساعات الأخيرة من الدوام، لكنها تنقضي.
***
أعود إلى غرفتي. أبدّل ملابسي. أذهب إلى صالة الرياضة. أمكث فيها  ساعتين تقريباً، منهمكاً بتماريني اليومية. أحاول إنهاك جسمي إلى أقصى حدٍّ ممكن، كي أتمكّن من النوم ليلاً. وهذه طريقتي في حربي على الأرق منذ سنوات. الرياضة ركن روتين جدولي اليومي المنظم الذي يُبقيني على مسافة من الاكتئاب، على الرغم من أنها مسافة وهمية غير آمنة.

أنهي تماريني، وأذهب إلى التسوّق. أعود إلى غرفتي. أستحم بماء فاتر. أضع ملابسي في الغسّالة. أطهو وجبات تكفيني لأيام أسبوع. أربعة أصناف من الوجبات. ريثما ينضج الطعام أغسل أواني الطبخ والصحون. أرتب الغرفة. أتناول وجبة خفيفة. أغسيل الصحون ثانيةً. أحرص على أن يكون كل شيء في مكانه. فالفوضى يمكن أن تصيبني بالضيق. أراجع المعلومات الجديدة التي وردت في الفصل الدراسي. أتناول مضاد الاكتئاب. ثم أنهي يومي بالكتابة أو القراءة، مستمعاً إلى الموسيقى. أو أغفو فيما أشاهد فيلماً من السينما الإسبانية أو الفرنسية.
***
بصرف النظر عن مشاعري الدفينة، أعتقد أن نظام حياتي هذا صحّي، بل إيجابيّ أيضاً. فهو يغنيني عن الإدمان المضني في انكباني على وسائل التواصل الإلكترونية الوبائية التي تفتك بكثرة من بشر هذا الكوكب. علاماتي في الاختبارات التجريبية الابتدائية في الثقافة العامة جيّدة، رغم أنني الأجنبي الوحيد بين مجموعة من مواطني دول الاتحاد الأوروبي.

أسلك مع الآخرين سلوكاً رسمياً مهذّباً، رغم نفوري من الرسميات التي أتقنّع وأفتعلها، لأقيم مسافة بيني وبين والناس. لا أتحدّث معهم إلا أضطّراراً. حين أُسأل أجيب باقتضاب، بلا تفسير أو شرح.

في مجموعتنا المتحدرة من ثقافات مختلفة، غالباً ما تدور أحاديث عن عادات الشعوب وتبايناتها. أمقت هذه الأحاديث التافهة المزعجة، والتي يكثر ويشتد فيها التغنّي والتبجح بالانتماء. الفضيلة الوحيدة لمثل هذه الأحاديث، هي كشفها الفوري عن مقدار ذكاء المتكلم أو غبائه. أضحك عندما يضحكون، وأطرح أسئلة كالآخرين إذا ما تعذّر علي فهم فكرة ما بوضوح. لكنني سرعان ما أكف عن الكلام، إذ انتبه إلى أن مثل هذه الأحاديث تنطوي على قدر كبير من السذاجة السطحية والابتذال.

أبذل جهداً هائلاً لأبدو شخصاً طبيعياً إلى أقصى درجة ممكنة. لكن الجهد القاسي الذي أبذله لأخفاء مشاعري الخاصة، وإرغام نفسي على الأنخرط في الحياة الواقعية، يذهب سدىً.

في آخر نهار من الأسبوع الماضي، انفرد المدرب بي وقت الاستراحة في قاعة التدريب، فسألني ما إذا كنت أعاني من الاكتئاب أو اضطراب نفسي ما. صعقني سؤاله، وشعرت بخدر بارد يسري في أوصالي كلها. تمكّنت من السيطرة على ما بي وكتمانه. رفعت الكتاب بيدي راسماً ابتسامة مزيّفة على وجهي، وأجبته: لا، إطلاقاً! وكل ما في الأمر أن أجواء الكتاب الكئيبة انتقلت إليّ، وهي مشاعر عابرة. وسرعان ما خرجت من القاعة فوراً، بحجة تلقّي مكالمة هاتفية.
***
وها أنا أفكر: الاكتئاب كالندبة التي يتركها جرح في وجه أحدهم. جرح لا يمحوه الزمن، ولا ترمّمه أية عملية تجميل، مهما كان الطبيب الذي يجريها ماهراً. وهو يظل واضحاً جلياً في ملامح المكتئبين، حتى الأغبياء غباءً فطرياً لا يزول. 

غمرني سؤال المدرب بشعور مدمّر على نحو مريع، دمّر ما حاولته بنزاهة وإخلاص في الأسابيع الماضية. وهو شبيه بشعور طفل يقضي النهار كلّه يعمّر قلعة من الرمال على الشاطئ. وما أن ينتهي من تشييدها ناظراً إليها بإعجاب، حتى تنهار في لحظة خاطفة، بركلة قدم طفل شرس يعبر على الشاطئ. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024