جولة في أزمنة حي بدارو

حسن الساحلي

السبت 2016/03/19
لا يحمل شارع بدارو قصة واحدة تمكننا من القول أن هذه االقصة تشكله. فالمنطقة الممتدة من المستشفى العسكري حتى شارع سامي الصلح والمحاذية للخط الأخضر خلال سنوات الحرب، تتشكل مبانيها من حقبات متباينة، وغير مرتكزة على زمن معماري واحد. يبدو المشي بين تلك المباني أقرب إلى الإنتقال في آلة زمنية متعطلة تضعنا في أزمنة متداخلة. وفي حال قررنا سرد قصة بدارو وأمكنتها يمكننا البدء من حيثما نشاء، ومن الزمن الذي نراه أكثر اثارة من غيره.


لا تنفصل محاولة نسج قصة بدارو عن ارتفاع نبض الشارع مؤخراً وارتفاع قيمته بين شوارع السهر في بيروت. يحمل الشارع خصوصية مختلفة عن شوارع أخرى مثل الجميزة والحمرا ومار مخايل، ويأخذ مساراً خاصاً في تطوره في السنوات الأخيرة تجعله مفارقاً لتجارب الشوارع تلك. تستند هذه المقالة بحزء كبير منها على جولة مع القاص المعماري راني الرجي أجراها مؤخراً "المركز العربي للعمارة"، تحت عنوان: "إمش الخط"ن وهي جزء من جولات دورية يجريها المركز في بيروت وخارجها.

الموارنة في بدارو
يمكن البدء من تلك المباني المتبقية من فترة الإنتداب الفرنسي المحاذية لميدان سباق الخيل اليوم، والتي ضمّت في السابق ثكنة للجيش الفرنسي والمستشفى العسكري الفرنسي. لا ينفصل انشاء تلك المباني في ذلك الموقع عن التغير الديموغرافي المستجد في بيروت مع بداية الإنتداب الفرنسي والنزوح الماروني الكبير إلى بدارو ومحيطها مع تلزيم معمل "الريجي" في فرن الشباك إلى شركة فرنسية عام 1922 وتحول مبنى الإدارة العامة للترامواي إلى إدارة فرنسية. ارتكز تعيين الموظفين في كل من المعمل ومباني إدارة الترامواي على أساس طائفي واضح شكل الموارنة في المكانين أغلب الموظفين.

حاولت سلطات الإنتداب يومها تشجيع النزوح الماروني من مناطق الريف إلى بيروت، وقد ساعد وجود المعمل وانتهاء خط الترامواي على تقاطع بشارع سامي الصلح على تركيز النزوح إلى تلك المناطق. كانت رغبة الإنتداب واضحة في تغيير الميزان الديموغرافي في العاصمة بيروت بين المسيحيين الموارنة المتحالفين معها والمسلمين السنة المنشدّين إلى خيار الوحدة مع سوريا والعاكفين في بداية تشكل الكيان اللبناني عن أي مشاركة سياسية فاعلة فيه. كانت سلطات الإنتداب يومها تعي صعوبة تسليم البلد لطائفة لا تمتلك ثقلاً سكانياً واضحاً في أي مدينة على الساحل اللبناني، ما انعكس في سياساتها العمرانية في بيروت والتي يبقى أثر منها واضحاً في بدارو اليوم.

أحلام العصرنة
في ستينات القرن الماضي شهدت بدارو موجة هجرة جديدة مع تغير الظروف السياسية في العالم العربي وتوحّد سوريا ومصر تحت حكم واحد. شهدت تلك الفترة هجرة عائلات المستثمرين السوريين المتضررين من اجراءات التأميم الإقتصادي في كل من حلب ودمشق وحط القسم المسيحي منهم بأغلبه في بدارو. حاولت تلك العائلات إعادة التأسيس في بلد يشجع على الإستثمار الحر واختارت العيش في منطقة بدارو التي اعتبرت يومها نموذجية لعيش فئات من الطبقة الوسطى في بيئة "مسيحية" تشجع على تعلم اللغة الأجنبية ومنشدة إلى نمط العيش الأوروبي الحديث.

يعتبر أثر عصرنة الستينات واضحاً في الشارع المعروف اليوم بـ"حرج بدارو". ومن أهم مميازات الشارع هو طريقة توزيع المباني التي راعت وجود غابة الصنوبر في المحيط وبنيت بطريقة تجعلها متلائمة معها. يعد هذا الشارع الوحيد من نوعه في بيروت وآخر ما بقي حتى الآن من آثار أحلام العصرنة في عهد الرئيس فؤاد الشهاب. ويثير الشارع اهتمام المتخصصين في العمارة اليوم لأسباب أخرى منها أن المهندس المعروف جوزيف فيليب كرم، وهو أحد ايقونات عصر "المودرنيزم" المعماري في بيروت، كان يعيش في الشارع وقد تبرّع كرم بمخططات عدد من المباني المحاذية له في الشارع بسبب رغبته بخلق محيط جمالي مريح له.

على مقربة من ذلك الشارع تظهر آثار ملامح أخرى من زمن أحلام العصرنة اللبنانية. من تلك الآثار مبنى نصف دائري على تقاطع شارع هنري شهاب– بدارو. يعكس المبنى الأثر الباقي من "المودرنيزم" المعماري في منتصف الستينات والذي حاول رسم صورة بلد يشجع على الإستثمار والمضاربة المالية. يحاول شكل المبنى الفخم من الخارج القول لمشاهده أن "الخارج" ليس سوى انعكاس لـ"داخل" متين وقوي وعصري يشجع على الثقة المالية والإستثمارية.

الحرب في سباق الخيل
مع بداية الحرب اللبنانية فصلت بدارو عن بيروت الغربية بشكل كامل وتوقف "زمنها المعماري" لخمسة عشر عاماً. تحولت المنطقة بمعظم أجزائها إلى بؤرة خطيرة بسبب موقعها المحاذي لمنطقة المتحف وخطوط التماس. بقي جزء واحد حيّ منها هو الجزء المحاذي لميدان سباق الخيل الذي استمر بالعمل بشكل طبيعي رغم الحرب. وقد استمر المقاتلون في ارتياده على تنوع انتماءاتهم.

الزمن الأخضر
يمكن الاستفاضة في الحديث عن بدارو والأحياء المجاورة لها خلال الحربن فقد أصبحت جزءاً من ذلك اللون الأخضر الذي فصل بيروت الغربية عن الشرقية ونبتت في شوارعها المحاذية لخطوط التماس أشجار ونباتات برية. صارت بدارو يومها جزءاً من ذلك الخط الذي كان يُرى من السماء أخضر يمتد من غاليري سمعان حتى وسط المدينة.

صار الخط رمزاً للصراع وهدفا لأي شخص يريد تصوير قصة حول الحرب في لبنان. عام 1981 صوّر فيلم "المزور" (Die Fälschung) للمخرج الألماني الحائز السعفة الذهبية في مهرجان "كان" فولكر شلوندورف، الذي قرر التصوير خلال الهدنة في بيروت واتفق مع الميليشيات المتحاربة على القتال لـ24 ساعة تمثل فيها بأنها تحارب من أجل الحصول على صور حقيقية للحرب (لم يوافق يومها على الإتفاق كل من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي). لكن مشاهد التمثيل تحولت إلى واقع حقيقي واشتعلت الجبهة بين الميليشيات المتنازعة لأربعة أيام ذهب ضحية المواجهات 4 قتلى وعدد كبير من الجرحى. تعرض المخرج لانتقادات واسعة بعد عودته إلى ألمانيا، وقد امتنع منذ ذلك الوقت عن استخدام أي صور من تلك المعارك أو اعطائها لأي شخص، مفضلاً الاحتفاظ بها.


* تنظم الجولة المقبلة يوم الأحد ٢٠ آذار ٢٠١٦ في القنطاري، وهي تحت عنوان "القنطاري- العمارة والعمران ونثرات الذّاكرة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024