"الفتاة التي تحترق" لكلير مسعود: أب خلف ستار أسود

المدن - ثقافة

الجمعة 2020/11/06
صدرت عن منشورات روايات، رواية "الفتاة التي تحترق" للكاتبة الأميركية من أصل جزائري كلير مسعود، ترجمة خالد الجبيلي. وقد نالت كلير مسعود جائزة Strauss Living Award من الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب، ووصلت مرّتين إلى نهائيات جائزة PEN/Faulkner Award. كتبت ستّة أعمال روائية من بينها "المرأة في الطابق العلوي" و"أطفال الإمبراطور". تهتمّ في رواياتها بالحيوات التي لا تجري وفق ما خُطّط لها، والقصص التي يشكّلها الناس لأنفسهم كي يُكملوا حياتهم وعلاقاتهم.

 

جاء في تعريف الرواية: عندما يكتنف الغموض العلاقات يبدأ الطرف الأضعف في الاحتراق من شدة الألم النفسي، أو ربما من كثرة التفكير، أو ربما لسبب آخر. عندما يكون الأب حاضرًا في حياة ابنته لكنها لا تعرفه، تنظر إليه كل يوم، لكنها لا تدركه، تحبه كثيرًا لكنها قلما تعرفه أو تعرف ما يطرأ عليه من تغييرات.. حتى أن شَعره شاب، لكنها أدركت ذلك من أمها، متى حدث وكيف وأين؟ لا تدري. يبدو أن الأب في هذه الأسرة يقف وراء ستار أسود سميك، لا يمكنك أن تلحظ منه أي ملامح أو إطلالات لمشاعر.. تنظر إليه من ثقوب صغيرة فقط. هذا ما تدور الأحداث حوله في هذه الرواية الممتعة والتي تحمل الكثير من المشاعر وتكشف عن ما يعتمل في النفس الإنسانية في كثير من العلاقات.

من الرواية:
يخيّل إليك أنّ هذا لا يضايقني الآن. فقد مضى زمن على انتقال عائلة بورنيس. مضت سنتان. لكن بالرغم من ذلك، فأنا لا أستطيع أن أتمدد تحت الشمس فوق الصخور عند حافة مقلع الحجارة، أو أغمر أصابع قدميّ في الماء البارد الرقراق، أو أسمع أصوات الفتيات الأخريات وهنّ يغنّين، من دون أن أتذكّر باستمرار أن كايسي قد ذهبت. ثمّ أريد أن أقول شيئاً - لكنّكِ لا تستطيعين. كأنها لم تكن موجودة أصلاً.

لذلك فإمّا أنني لم أذهب إلى هناك في المقام الأول، أم أنني كنت أعود إلى البيت مباشرة، وأرمي درّاجتي الهوائية فوق العشب في حديقة البيت الخلفية وعجلاتها لا تزالان تدوران، وأقرع باب الغربال بقوة مصدرة صوتاً عالياً يجعل أمّي تجفل في كلّ مرة، وتُهرع إلى المطبخ وتنظر إليّ بعينيها المفعمتين بالعاطفة التي تتراءى لي الواحدة تلو الأخرى – الحبّ، الخوف، الإحباط، الانزعاج، لكن الحبّ يغلب عليها كلها. ولم تكن تردد عادة إلاّ كلمة واحدة وهي، "عطشانة؟" بعلامة استفهام، وهذه الكلمة هي الجسر الذي يجعلني أعبر من هناك إلى هنا، فإمّا أني أقول "أيوه" أو "لا"، وإمّا أنها تصبّ لي ماء من الدورق في الثلاجة، أو أنها لا تفعل ذلك. ونبدأ من هناك، ونمضي.

هكذا تمضي الأيام، وستظل تمضي على هذا المنوال – ألم تكن كايسي نفسها هي التي تقول عادة، "الأمر كلّه هو أن الزمن يمضي؟ - وسنبلغ نهاية هذا الصيف، كما بلغنا نهاية الصيف الماضي، كما مرّ كلّ ما حدث لنا منذ أكثر من سنتين. ويباعد كلّ يوم يمضي المسافة بين الحاضر وبين ذلك الزمن، حتى أنني أستطيع أن أعتقد – يجب عليّ أن أعتقد – بأنّني سأنظر ذات يوم إلى الوراء ولن أكون "آنذاك" سوى نقطة صغيرة في الأفق.

إنها قصّة مختلفة تعتمد حكايتها على النقطة التي ستنطلق منها: من هو الطيب، من هو السيء، وماذا يعني كلّ ذلك. فكلّ واحد منّا يشكّل قصصه الخاصة به لتعبّر عن الطريقة التي نفكّر فيها بأنفسنا. يمكنني أن أبدأ القصة منذ أن كنّا، أنا وكايسي، أعزّ صديقتين، أو يمكنني أن أبدأ منذ أن لم نعد صديقتين، أو بوسعي أن أبدأ من النهاية الكئيبة وأحكي القصة كلّها من الماضي.

لكن لا توجد بداية "من قبل": فقد التقينا، أنا وكايسي، في روضة الأطفال، ولا أستطيع أن أتذكّر زمناً لم أعرفها فيه، زمناً لم أكن أميّز فيه رأسها بشعره الأبيض الناعم، الأملس، من بين مجموعة من الأطفال، وأعرف تماماً أين تجلس في الغرفة، ويعتريني شعور، بطريقة ما، بأنها ستكون صديقتي. كانت كايسي ضئيلة الحجم، عظامها رهيفة مثل عظام طير. وكانت دائماً أصغر فتاة حجماً في الصفّ، وكان حجم محيط كاحلها بحجم محيط رسغي. وشعرها أبيض - أشقر يلمع، وكانت بشرتها بيضاء حتى تكاد تكون برصاء، بشرة شبه شفافة تميل قليلاً إلى اللون الوردي. لكنّك تكون مخطئاً إذا ظننت أن حجمها وشحوبها يشيان بأنها ضعيفة. وكلّ ما عليك أن تفعله هو أن تنظر في عينيها – لا تزالان عينان زرقاوان تصبحان رماديتين في الأجواء المعتمة، كما هو الماء في مقلع الحجارة – وبوسعك أن ترى أنّها فظة. قوية، أظن أنها الكلمة الأنسب. مع أنها في نهاية الأمر، بالطبع، لم تكن بذلك القدر من القوة. لكن حتّى عندما كنّا صغاراً، كان ثمة شيء في طبعها، شيء أشبه بقولها: بحق الجحيم "أنا لست جبانة، هل أنتِ كذلك؟"

وبحسب ما تقوله أمّي، وأمّ كايسي، بيف، فقد أصبحنا، أنا وكايسي، صديقتين في الأسبوع الثاني من دخولنا إلى روضة الأطفال عندما كنّا في الرابعة من عمرنا. كانت هذه هي القصّة دائماً، مع أنني لا أعرف الآن إن كنت أتذكّر ذلك، أم أن ذلك تكرر على مسامعي كثيراً فاخترعت هذه الذكرى: فقد كنت ألعب مع عدد من الأطفال بصندوق الرمل، وكانت كايسي واقفة في وسط ساحة اللعب، واضعة يديها على خصرها مثل زومبي، تحدّق في كلّ شيء. لم يكن يبدو أنها متوترة أو عصبية، وإنما ساهمة تماماً. فتركت صديقاتي ودنوتُ منها ولمستُ مرفقها، وقلت لها – هكذا قيل لي - "هيا، تعالي وشاركيني في بناء قلعة؟" فافترت شفتاها عن تلك الابتسامة الواسعة النادرة، ابتسامتها المعروفة التي تجسدّت عندما أصبحت أكبر بتلك الفجوة التي تفصل بين أسنانها الأمامية مثل جورجيا جاكر. وعادت معي إلى صندوق الرمل، "وهكذا كان"، كما كانت أمّي تقول دائماً.

عندما تكونين في روضة الأطفال، فإنك لا تفكرين بذلك كثيراً. فقد كنّا مجرد طفلتين، وكنّا نقول إن الأخرى هي الأخت التي لم تلدها أمّنا. ولم يكن باستطاعة أحد أن يخطئ ويظن أننا قريبتان بصلة الدم – فقد كنت طويلة القامة وضخمة العظام بالنسبة لعمري، تماماً كما كانت كايسي صغيرة الحجم، وكان شعري داكناً ومجعّد. لكن ما كان يجمعنا هو العينان الزرقاوان. "انظروا إلى عيوننا"، كنا نقول، "فإننا شقيقتان سرّيتان".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024