"كشف الحقيقة" ضد الحقيقة... النظام قوة احتلال

روجيه عوطة

الخميس 2020/08/06
ما تفجر نتيجة مجزرة الأمونيوم في بيروت، هو الحقيقة. هذه الحقيقة تقول التالي: النظام يحتل البلد، وفي إثر احتلاله هذا، حوله إلى خراب.

لكن هذه الحقيقة، ولكي تنفجر بهذه الطريقة، فهذا يعني أنها كانت هنا، كانت دوماً هنا. لكنها كانت قد تعرضت للكتم، للضغط على أنفاسها كي تموت. إلا أن الحقيقة لا تموت، الحقيقة تبقى حية إلى أن تجد مخرجاً تنفذ منه.

قام النظام على كتم هذه الحقيقة، لكن هذا الكتم كان قاسياً للغاية، بحيث استوى على شكل محدد. فالنظام أتاح للحقيقة هذه أن تكون بائنة أمام محكوميه، بحيث أنه لم يعمد إلى سترها فعلياً عنهم، إنما أعدم قيمة العلم بها وقيمة قولها، لتصير خالية من أي وقع. هذا هو الكتم القاسي للحقيقة: ألا يؤدي العلم بها وقولها سوى إلى البقاء تحت الاحتلال، والتعرض للخراب الذي يخلفه في حيواتنا، يعني أن يصير كلٌّ من فِعلَي معرفتها وإعلانها مجرد سبيل لاستئناف السابق عليهما. بالتالي، كان لا بد للمحكومين بذلك النظام أن يتدبروا عيشهم من بعد هذه الحقيقة، وبهذا، كانوا يقاومون.

لقد أبدت الحقيقة، وفي لحظة تفجرها، ذلك النظام كما هو، أي بمثابة قوة احتلال، الناس في ظله قتلى، عمرانهم في ظله مقوّض، ووجودهم في ظله مجرد حطام. على هذا النحو، وفي تلك اللحظة، اشتغلت الحقيقة، ورجع وقعها، لكي تبرز الخراب أينما كان، لكي تشير إليه في كل النواحي.

لكن ثمة الآن خطبة ترجع الناس الى ما قبل لحظة الحقيقة تلك، الى ما قبل اشتغالها، وهذا، على أساس دعوة بعينها: دعوة "الكشف عن حقيقة ما جرى".

على أن الخطبة، وبدعوتها هذه، تظهر أن الحقيقة إياها، حقيقة أن النظام قوة احتلال، لم تشتغل، ولهذا، لا بد من "التحقيق في الكارثة من أجل معرفة المسؤولين عنها". لذلك، هذا "التحقيق"، وفي خلاصته، لا يفضي سوى إلى كتم الحقيقة من جديد، بحيث أنه سيمضي في "بحثه" الى إعدام وقعها، ليكون قولها وإعلانها بمثابة لا شيء.

هناك في هذا السياق ملاحظة بعينها، وهي أن الحديث الإعلامي والحقوقي عن وثائق وأدلة يبدو، وفي الكثير من الأوقات، كاريكاتورياً. فمن يحتاج الى دليل ووثيقة لكي يدرك أن فلاناً فاسد أو غيره مجرم، في حين أن فسادهما وإجرامهما واضح؟ منذ أن صار لـ"الكشف عن الملفات" برامج في التلفزيون، قبل أن ينتقل إلى غيره من الوسائل، صارت هذه البرامج، و"ملفاتها"، بمثابة سبيل الى "القضاء" على كل حقيقة، أو بالأحرى على وقع كل حقيقة.

بهذا المعنى، "الكشف عن الحقيقة" هو ضد الحقيقة، لأنه ينطلق من كونها، بدايةً، ليست بائنة، بل مطمورة، فيبغي "رفع الغطاء عنها". لكن تظهير الحقيقة البائنة ليس سوى تعطيل لوقعها. مثلما أن "الكشف" ذاته هو ضد الحقيقة لأنه ينطلق من كون الناس لا يعرفون الحقيقة، بالتالي، يجعل من مقاومتهم، من عيشهم بعد الحقيقة، ضرباً من "الجهل" بها. وبهذا، يتوجب عليهم أن يتلقوا "الكشف" لكي يبددوا "جهلهم". على هذا النحو، "الكشف عن الحقيقة" هو، في الواقع، بمثابة وضع حد لمقاومة الناس، وفي النتيجة، هو أداة من أدوات النظام.

فلا تعني الدعوة إلى "الكشف عن حقيقة ما جرى" في إثر مجزرة الأمونيوم، وهذا في حين أن مرتكبها، أي النظام، معروف، سوى أن تنطلق عملية كتم الحقيقة، عملية إطاحة وقعها، لتغدو من دون قيمة. بيد أن هذه العملية، وإن حصلت، فعندها يكون النظام قد واصل ارتكاب مجزرته، وشرع في قتل الناجين منها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024