"حدث ذات مرة في هوليوود".. رأي مُشاهدة

فرح الدهني

الجمعة 2019/08/23
يُسمّي كوينتين تارانتينو، في فيلمه الأخير "Once Upon A Time In Hollywood"، مدينة الإنتاج السينمائي الأبرز هوليوود باسمها، وكأنه يريد إلى ذلك أن يلاطف هذه المدينة ويعابثها ويجذبها من أذنها ليصفعها على مؤخرتها. استطاع تارانتينو، صانع "Inglorious Bastards" و"Kill Bill" (بجزأيْه)، أن يثبت خلال مسيرته السينمائية أنه ليس الفم الذي يصلح للثغور الهوليوودية الفاغرة. له جمهوره الملتاع والمنتظر دائماً، وله خانته التي تُجاوز الاصطفاف السينمائي الباهت.

في فيلمه الأخير، الذي يُعرض حاليًا في صالات السينما اللبنانية، يقف تارانتينو وِقفة مَن يُطلق النار على كل ديناصور لم ينقذ سلالته. الرصاصة الأولى كانت لجمهور ماكينة أفلام القرن الحادي والعشرين، حيث الكلمة الأخيرة للإبهار البصري للمشاهد الذي يُسقِط الممثل في كادر تصويري معلّب يرفده البذخ الإنتاجي، فأتاه تارانتينو في 2019 بزيّ الستينات، في فيلم ينقل بحرفية كبيرة صورة المجتمع الأميركي في تلك الفترة، حيث سيارات الكاديلاك والبورش المكشوفة...، الشعر الكثيف المصفف بعناية، الملابس التي تضجّ بألوانها (قميص هاواي والسراويل الواسعة، السترات الجلدية، التنانير القصيرة، النظارات الضخمة)، حقائب السفر الوردية، الانتاجات التلفزيونية التي كانت تستهوي جيل الستينات، أغاني نيل دياموند، الأفلام الحربية لانطونيو مارغيريتي، الحفلات في قصر بلاي بوي، ملصقات الأفلام.... حتى لقد تظن لوهلة أن Dean Martin يشغل أحد المقاعد في الصالة مشاركاً إيّاك أجواء العرض.

في البدء، يُطلعنا الفيلم إلى شخصين، الممثّل ريك دالتون (ليوناردو دي كابريو) بطل مسلسلات الوسترن التلفزيونية، وبديله كليف بوث (براد بيت). ريك دالتون هذا يجسّد، بثيمة متهكّمة، معضلة الممثل الأميركي المتأبّط دوره التلفزيوني الأحادي الصبغة (الوسترن/ الشرير الذي يموت في النهاية/ البطل المنقذ...)، والذي بات يعاني مما يشبه قرحة المعدة، التي لا تأتي مما يدخل معدته، وإنما مما يأكله من القلق والخوف من الإقصاء مع بزوغ فجر هوليوود الحديثة، فيجد نفسه في دوامة التفلّت من شبكة الأدوار الكلاسيكية، والسعي من أجل التقدم، وإن زحفاً (عبر السينما الايطالية)، إلى الشاشة الذهبية، تماشياً مع التغييرات التي تصيب الواقع الاجتماعي والفني آنذاك. تارانتينو صنع منحوتته هذه بآلاف من ضربات الإزميل الخفيفة: المنافسة الباردة على حلبة الفن القتالي بين أبطال الغرب الأميركي (كليف بوث) والشرق الأدنى (بروس لي)، السينما المحكومة بالرأسمال حيث يُستبدل البديل بالبطل (الباء للمتروك) لتفادي خسائر انتاجية، سينما الإغراء، طبقة "الهيبيز" المناهضة لحرب فيتنام حيث يؤمنون بأبطال النضال الحقيقيين خلافاً لأبطال السينما الأميركية.

ورغم أن الفيلم ينحو منحى ساخراً، إلا أن المُشاهد يشعر كأنه إزاء رقصة فالس، كلما تقدّم صوب حبكة الفيلم خطوة، تراجعتْ عنه خطوة إلى الوراء. فتارانتينو الذي أخرج إلينا العابث كليف بوث (براد بيت) مرتدياً قميص هاواي بصورة بهية، لم يفلح في تصوير المجتمع الهيبي بدقة متناهية، فأتى هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة في الواقع أشد هشاشة في الفيلم. أما الإحتراف الإخراجي الذي يتجلى في معظم اللقطات المصوّرة، فقد خذله في بعض المشاهد التي أتت مستطيلة حدّ الملل... ثم يعود الفيلم في نهايته تارانتينياً بحتاً، حيث تعبق المشاهد بالصخب والشراسة والكوميديا الساخرة والفن الحركي، ملعب تارانتينو... رغم أنّ الفيلم قصيدة حب كتبتها أنامل تارنتينو لحقبة الستينات، إلا أنك تخرج بعد 161 دقيقة من المشاهدة برأس مستمتعٍ بجنون تارانتينو، ضَجِر من البحث عن الصندوق الأسود، وحماسة كلّت الإنتظار...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024