ثورة السودان الحلمنتيشية

روجيه عوطة

الأحد 2019/04/28
قبل أن يستعيد السودانيون الشارع، كانوا، ومنذ زمن طويل، قد استعادوا اللغة، إذ انهم  برعوا في جعلها قريبة منهم للغاية. وربما، شِعرهم كان السبيل الامضى إلى ذلك، فمن خلاله، صارت لغتهم بمثابة فضاء لفعل بعينه، وهو اللعب. ولهذا، كان للفكاهة موضع في شعرهم، الذي، وعلى اثرها، لا يعود مضبوطا ومكتوماً في إطار جامد، يخنق قائله قبل أن يخنق معناه، إنما، يغدو فالتا، ويتركب من تلقاء لا يمت بصلة لأي فرض نحوي سابق عليه.

هذا الشِعر، وعندما يذهب في فلتانه حتى النهاية، يحمل اسم الحلمنتيشي، وهو اسم كان قد أطلقه عليه الاديب حسين شريف المصري في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد حافظ على اسمه لاحقا، أكان في مصر، أو مع انتقاله، وبسرعة، إلى السودان. وهذا، من دون ان يدل باسمه على شيء محدد، فالحلمنتشي كلمة ككلمة "دادا" التي اختارتها جماعة تريستان تزارا ورفاقه بالمصادفة يوم إطلاق تيارها من كباريه فولتير في زيوريخ.

لا يمكن، وبسهولة، تحديد صفات الشعر الحلمنتيشي، لأنها تختلف من قصيدة إلى قصيدة. لكن، وعلى عموم العرض، يصح القول انه خليط: لغوي وتركيبي وموضوعاتي. من ناحية، تنخلط فيه العربية الفصحى مع المحكية ولكناتها، بالإضافة إلى اللغات الاخرى. ومن ناحية ثانية، وبجمعه بين قفو القصيدة، مدها بالقوافي، وتركها على عبارات منفصلة، أو عارضة، ومفاجئة، يتحول لحنها إلى ما يشبه السخرية او المحاكاة الكوميدية لأي قصيدة كلاسيكية. ومن ناحية ثالثة، القصيدة الحلمنتيشية بمقدورها ان تتناول اي موضوعة من الموضوعات بدون ان توزعها هرميا، أو ترفع واحدة منها على أخرى بحجة المكانة، فكل الموضوعات على السوية ذاتها.

من هنا بالذات، ليس الحلمنتيشي شعراً مفتوحاً للجميع فحسب، بل إنه، وايضا، طريق هذا الجميع إلى التعبير، إلى صناعة عبارته،  لكي تدور حول عيشه اليومي. فهذا العيش هو مصدر الحلمنتيشية، بحيث ان الشاعر ليس شاعرا اولا واخيرا، إنما هو شخص ما، أكان قبل قصيدته أو بعدها، بالتالي، شعره هو كلامه عن وضعه بينهما. كما لو ان الحلمنتيشية هي كلام الشاعر حين لا يكون شاعرا وحين يكون كذلك على حد سواء، مثلما انها الشعر حين لا يكون شعرا وحين يكون كذلك.

يتفق الحلمنتشيون في السودان على أن شعرهم لا يزدهر سوى في اوقات الاضطرابات، ولأن هذه الأوقات ليس قصيرة، فمن السانح الاشارة إلى أن ازدهاره دائم. وبالفعل، ليس الحلمنتيشي بغريب عن السودانيين، على العكس تماما، فهو ادبهم الشعبي، الذي، وفي سياقه الشعري، يسردون بواسطته ما يمرون به من مواقف ليجعلونها مضحكة. فالعيش اليومي، وعبر الحلمنتيشي، يستحيل كناية عن قصيدة طويلة قريبة من الدعابة، تحث على الضحك، كما أنها تدفع، وهنا جانبها الاجتماعي، إلى الرد عليها أيضا. وعندها، بالطبع، يصبح شعرها محادثة، أو جدالا، أو محاورة، تدور بين المقهقهين.

للمستمع إلى شعارات السودانين واغنياتهم في ثورتهم، من الممكن أن يلاحظ حملنتشيتها، لا سيما من جهة فكاهتها الملحنة. وفي هذا السياق، انتشر فيديو على "يوتيوب"، يحمل عنوان "شاب مبدع، شعر حلمنتيشي"، يظهر فيه متظاهر لا يلقي قصيدة بل شعارا، وبالتالي، بدا ان الثاني يرادف الأولى، ولا فرق عمليا بينهما.  ففي كلاهما، الفصيح يجاور المحكي، والقافية يجددها اللحن، وبهما، يصير الانتفاض مرتبطاً بالضحك، مثلما أنهما يحضان على التجمع حولهما، والتحرك على وقعهما، لكي يصير العيش بهيجاً: "ﻓﺸﻠﺘﻲ ﻣﺎ ﻗﺪﺭﺕ ﻭﺍﺻﻠﺖ ﺍﻟﻤﺴﻴﺮﺓ/ﺇﻳﻪ ﻓﺎﺋﺪﺓ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﺪﻣﻴﺮﺓ/ ﻭﺍﻟﻜﻮﺍﺑﻞ ﻭﺍﻟﻌﻮﺍﻣﻴﺪ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ/ﺩﻟﻠﻮﻫﺎ ﻭﺍﻣﻠﻮﺍ ﺑﻘﺮﻭﺷﻬﺎ ﺍﻟﺨﺰﺍﺋﻦ/ ﻭﺭﺟًﻌﻮﺍ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﻠﺮﺗﺎﻳﻦ/ ﻭﻳﻨﻔﻜﻮﺍ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺸﺎﻛﻞ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﻋﺐ ﻭﺍﻟﻤﺘﺎﻋﺐ/ ﻳﺎ ﻛﻬﺎﺭﺏ ﺍﻗﻄﻌﻲ". 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024