لبنان في حلة نظام الولاية الحرسية

وضاح شرارة

الإثنين 2019/10/07
رداً على وقائع أيلولية أخيرة، تناولت الوكالة اللبنانية ("حزب الله") للحرس الثوري الإيراني أو كانت الوكالة طرفاً فيها- مثل مقتل المهندسين ضاهر وزبيب في عقربا، وإنزال الطائرتين الاسرائيليتين من غير طيار في مقر اعلامي من مقراتها، و"الرد" على الإنزال بأفيفيم، وتصفية "جمال ترست بنك" جراء استقباله ودائع وأموالاً يملكها بعض المحازبين- أجمع الخصوم، سياسيين وناشطين ومعلقين صحافيين وأصحاب حسابات وحيطان، على الشماتة بالوكالة العسكرية والسياسية وإخفاقاتها الظاهرة، واستخفوا بضآلة عملياتها وبنزولها على شروط سلامة العدو وإيعاز الوسطاء الذين يرجح أنهم توسطوا بين الأوصياء على الوكيل وبين الشيطان العنكبوت. ولما حصلت الوقائع وكُتبت التعليقات عليها في دوامة الازمة الايرانية- الأميركية، وهوامشها وفروعها المتناسلة، حُملت الوقائع على أصل الأزمة وفروعها. وأبرز الفروع يومذاك قصف تجهيزات أرامكو في محطتي الشركة السعودية الكبيرة، في 14 أيلول/سبتمبر.

فراغ الداخل
وخلصت الآراء المتفرقة إلى رأي مركزي هو دعوة ملحة وصريحة الى الانخراط في الأزمة المتعاظمة، والانحياز إلى القطب العربي، عدو العدو الإيراني، وإلى جبهته الناشئة. وينبغي أن يكون عرض هذه الجبهة بعرض جبهة طهران و"عواصمها" العربية المنتشرة والمتناثرة بين الخليج وبين شرق المتوسط. ويفترض الرأي أن يتجاوز معارضو الوكالة الحرسية، والوكالات التي تشبهها، العدو الداخلي الرابض على صدر الدولة الوطنية والملتف على مرافقها وجوارحها وجماعاتها التفاف أذرع الأخطبوط الفولاذية، إلى القلب والرأس الإيرانيين. فلا يتلهى المعارضون بالقشور والفروع والأطراف، ويسددون معارضتهم، نقمتهم وتنديدهم وثورتهم (على معنى سورة الغضب) إلى رأس الأفعى، على استعارة بائدة. ويحيي هذا الرأي فكرة الجبهات المعادية للامبريالية أو للطغمة الحاكمة ويُغفل أبنية العلاقات السياسية والاجتماعية الداخلية.

وفي الأثناء، ما العمل؟ ففي الأثناء، وبينما تدور رحى اجراءات عسكرية وديبلوماسية وأمنية ومالية اقتصادية معظمها مواربة وجانبية، تدار شؤون الأمن والسياسة والإدارة والاقتصاد والاجتماع، في دواخل الدول والبلدان المبتلية بالوكالات الحرسية وأخطبوطها، على مثالات متفرقة مختلفة. وتترجح المثالات بين الحرب الأهلية، المذهبية والبلدية المحلية والاقليمية الصريحة على المثال اليمني، وبين إدارة صورية و"سلمية" مشتركة يتنصل الشريك الإيراني فيها من تبعات شراكته الغالبة، ومترتباتها الثقيلة على أمن الدولة وسياستها واقتصادها. وشطر راجح من هذه المترتبات ناجم عن وكالته الحرسية الايرانية، وعن ذيول حروب لم تطوَ بعد ثلاثين عاماً على "نهايتها". ومثال هذا الصنف من الإدارة هو لبنان. ويلاحظ شبه متفاوت القوة والحدة بين لبنان وبين العراق، على حين تُقرّب بعض السمات السورية من الشقاق اليمني، على افتراق واضح سببه اختلاف الجماعات السورية الكثيرة، وعولمة الحروب الأهلية، وجوار الدولة العبرية.

تكييف التبعية
وعلى هذا، فالتبعية الحرسية والمرشدية (على ما صرح الشيخ صبحي الطفيلي في كلامه على تمويل خميني المنظمة العسكرية والسياسية من "حقوق" المرجعية) لا تقتصر على الولاء لرأس الثيوقراطية الإمامية الإيرانية ولا تختصر فيها ولا في النزول على إمرتها وطاعتها "المطلقتين". فالحق أن التبعية والولاء والنزول على الإمرة راعت مراعاة شديدة شروط السيطرة الحزب اللهية على الهشيم اللبناني. وصاغت، في ظروف لبنان، نظاماً يبدو فاعلاً من تلقائه، ومستجيباً دواعي "الدولة" اللبنانية الداخلية التقليدية والتاريخية. فعلى ما يرد دعاة وأصحاب مصلحة ومترددون كثر: الانتخابات على أشكالها ومستوياتها تنظم في مواعيدها، ويتداول الإداريون والضباط والقضاة الماليون المناصب دورياً، والاقتصاد السياسي الوطني "حر" و"المصالح المشتركة" في عهدة قطاع عام يمتنع من الخصخصة... والانحرافات والتجاوزات وغلبة الكتل الخاصة والأهلية على العموم والمشترك إنما هي من تقاليدنا العريقة ولا تخرج عن سننا الراسخة التي استنتها المارونية السياسية وماشتها السنية الميثاقية. وهذا قدر لا راد له قبل قيام "دولة بلاد الشام" (الصيغة "العلمانية الأسدية" والفائتة ربما) في عهدة "لا – دولة" الولي ولاية مطلقة وكينونية (في صيغة سلفية وحبرية إكليركية).

وهذا الزعم ليس مجرداً من موضوعية فعلية. فتحرر اللبنانيين من السلاطة (الإفراط في السلطة والتسلط) الأسدية- وهي حافظت على "النظام" اللبناني الشكلي، ورضيت بتحوير "روحه" فقط-، وتولي الحكم طاقم "14 آذار"، على ما سمي، لم يصلح العلاقات السياسية، لا من قريب ولا من بعيد. وساوى حكم "14 آذار" بين "الاستقلال الثاني" وبين دوام سوس الدولة بسياسة الكتل الأهلية والعصبيات المتحاجزة، وبنهج يحجم عن إنشاء أبنية سياسية ومدنية متحررة من الولاءات الأوليغارشية والشخصية. فتتولى دمج الجماعات الطرفية والهامشية (في الضمانات الاجتماعية والتعليم والجيش والإدارة). وجدد الطاقم أهل الحكم والإدارة تجديداً جزئياً. واستأنفت النزاعات السياسية معاييرَ تكتلها وتحزبها وموازين انقسامها وتفرقها، وحدودَ هذه وتلك. وجواب هذا، الصادق جزئياً، هو أن "الأذاريين" لم يكونوا مطلقي اليد، وخلّف "النير" الأسدي السوري في الدولة "المستقلة" ومجتمعاتها روابط ومصالح عميقة الجذور والقيود. ويتعثر صدق الجواب بافتقار عهد أصحابه إلى إيذان واحد ضعيف بما يشبه سياسة إصلاح عامة وجادة.

حركات التحرير مثالاً
وقد تكون هذه الحال نسخة مكررة وهزيلة عن مثال سياسي عقيم ومزمن، على رغم اختباره الطويل. فحركات التحرر الوطنية من السيطرة والغلبة الأجنبيتين، ومعظمها نهض في الثلث الثاني من القرن العشرين، وَلدت في بلدانها ودولها المستقلة كتلاً حاكمة تجمع إلى "عموديتها" (على قول بوتين!) المتسلطة والأمرية شرذمة عصبية ضيقة، فساداً وتبديداً لا قاع لهما، وعجزاً حاداً عن التدبير (أي التأليف والتحكيم والتعاقد والأمان، في مصطلح "تراثي") وتكلفته الرمزية والزمنية. فالتحرر هذا، وما يقتضيه أو اقتضاه فعلاً من مركزية وتنسيق قاسيين، وطاقم قيادي مرصوص، وتحصين أمني من استدخال العدو الخارجي والجماعات المترددة والمصالحة، ومن تحشيد دعوي لا تمييز فيه، أفضى إلى استيلاء منظمات استبدادية، لا قيد عليها من معارضات تامة لمشروعية، على مقاليد الأمر كلها.

ولا يُخلص من هذا إلى دعوى "جمال الاستعمار"، وضرورة دوامه إلى حين بلوغ المستعمَرين الرشد الذي يؤهلهم إلى حكمم أنفسهم بأنفسهم، ولا إلى "القابلية للاستعمار" على زعم مالك بن نبي. وذلك على مقالات يشترك فيها فريقان مختلفان (واحد يتبناها وآخر ينسبها إلى من يقولون القول السالف والمتحفظ). ولكن يُخلص منه إلى أن معايير سياسة البلدان المستقلة، بعد تحررها من السلطان الأجنبي، تخالف معايير السياسة التي تولت أو تتولى تحريرها. فـ"الحزب" الذي يضطلع بانتزاع الاستقلال بالوسائل التي تقتضيها الحرب الوطنية، وترد بها على الحرب الاستعمارية على شاكلتها المعروفة، ينزع إلى استبداد داخلي ساحق توفره له أبنية الدولة الحديثة، "البيروقراطية"، وإحاطتها من فوق وبتقنيات صارمة بمرافق الحياة الاجتماعية ووجوهها الخاصة والعامة.

ولعل "أثمن" وأسوأ ما ترثه حركات التحرر الحاكمة من طورها الاستعماري والقتالي هو وصف العدو بصفة "مطلقة" و"وجودية"، على قولين لبنانيين يترددان على ألسنة كثيرة، ونظير صفة العدو المزدوجة هذه. فهذه الصفة، العملية والإجرائية، عون على دمج مرافق الاجتماع الداخلي المتفرقة في سلطان جامع ومنفصل عن الجماعات والمواطنين والأفراد جميعاً. ولا يرضى "الحزب" الذي يقود الخروج على السلطان الأجنبي، ولا ذاك الذي يثور على حكم وطني أو محلي "رجعي"، أو محافظ تقليدي، أو مستول عصبي- مثل هذا "الحزب" لا يرضى طبعاً الاستقالة، ولا تقاسم السلطة والتمثيل والمشروعية، بعد الاستيلاء والاستقرار والاحتكار، مع أطراف داخلية. وعلى هذا، لا تتخلص حروب التحرر، ولا الثورات على "الأنظمة" المحافظة والمستولية، من ذيول حروب أهلية، صريحة وحادة أو مضمرة ودابة، تتضافر سريعاً مع المنازعات الاقليمية على تغذية اضطرابات متناسلة ومتجددة لا يطويها غالباً غير تدخل صارم ينجح، بعض الوقت، في إطفاء الحرب قبل أن يوقدها ويسعرها في وقت لاحق.

الحرب الأهلية الشيعية في الحروب الملبننة
ولا يعدو التذكير بوقائع عربية وشرق أوسطية معروفة وماثلة، وصفَ استئناف الوكالة اللبنانية المحلية (عن "الثورة الاسلامية في إيران") الحروبَ والنزاعات الداخلية الملبننة السابقة والطويلة (1968-1982 على وجه التقريب). فالوكالة نشأت أصلاً عن انشقاق أهلي شيعي في سياقة حروب داخلية معطوفة على حرب إقليمية طويلة، "الحرب" العربية- الاسرائيلية، وعلى نزاعات وخلافات عربية- عربية مقيمة ترجحت بين الحرب الأهلية (في الأردن) وبين الخلاف الأهلي والسياسي المترتب على انعطاف اجتماعي حاد استبدل تكتلاً حاكماً تقليدياً، متخلفاً عن الانتدابات القديمة وما قبلها، بتكتل جديد، عامي و"شعبي"، حزبي وعقائدي (إيديولوجي) تصدره ضباط ومتعلمون متحدرون من الأرياف وعصبياتها وسياساتها.

والكتلة الشيعية (حركة المحرومين- أمل) التي انشق عنها تدريجاً جناحها "الاسلامي" "الرسالي" والمتطرف (أمل الاسلامية، اتحاد الطلبة المسلمين، حلقات محمد حسين فضل الله...)، كانت نشأت عن معارضتين:

1- عارضت الأولى الطاقم السياسي، الشيعي المحلي، وانخراطه في ائتلاف حاكم لبنان محافظ وشائخ، نكصَ عن المطالبة للجماعة التي يمثلها بـ"حصة" مناسبة من "الغنيمة"، على مثال "عقيدة" سياسية عربية مشتركة. وضوت هذه المعارضة، بعد أن استحوذ عليها موسى الصدر، كتلة اجتماعية وسياسية عريضة جمعت أثرياء المهاجر، ومن خلفوا "وجهاء الصف الثاني" (آل الخليل وعسيران وبزي والزين وعرب... و"كبار العلماء المحليين، شرف الدين وصادق والأمين وفضل الله...) على المكانة والدور، وكتل عامية من موظفين ومتعلمين وصغار التجار ووسطاء وعمال ومستخدمين و"سواقط" الطبقات الضعيفة. ويوجز برنامج هذه المعارضة في اللحاق بالمثال اللبناني المتوسط، أو المسيحي، وبشطره المتخيل (بلدان الاصطياف والهجرة القديمة) في المتنين وكسروان الساحلي و"حواضر" الجبل الجنوبية مثل دير القمر وجزين...) فوق شطره الحقيقي. وأوجز الجناح الملتحق بالولاية الخمينية رغبة أنصار الجناح الصدري في الانخراط اللبناني، المجتمعي قبل السياسي فوق السياسي، بالقول (لاحقاً في نشرة العهد التي سبقت التلفزيون) إنها رغبة في "الخدمة" في الكازينو، كناية عن التحاق لبنان المسيحيين بالغرب "الفاسد".

2- وتناولت المعارضة الأخرى الموقف من المنظمات الفلسطينية المسلحة. فعلى خلاف أنصار الصدر ومحازبيه، وخشيتهم على جنوب لبنان أولاً من استيلاء اسرائيلي على أرضه ومياهه، يصد الهجمات الفلسطينية ويقيم منطقة عازلة، ويؤدي إلى تهجير الشيعة اللبنانيين ويولي على الأرض المحتلة موالين محليين – على خلاف هذه الخشية، حمل الجناح الخميني، على رغم ضعفه وحبوه يومها، الاحتلال المحتمل (وهو صار واقعاً في 1978 ثم في 1982 وما بعدها) على فرصة ثمينة ينبغي ألا تضيَّع. فهي تدخل قوات الدولة العبرية، والدولة كلها من بعد، في "فخ" المجاهدين الاسلاميين، وتجر الجيش إلى أرض ملغومة ينبغي – على حساب متفائل استدرج العراق إلى حرب قدَّر عالم قم أنها فاتحة الطريق إلى القدس وقتلت نحو 600 ألف إيراني- أن تغرقه في "وحولها" ونارها. وبينما حذر الصدريون، بعد 1982، والحملة الاسرائيلية من العودة الى الوقت الذي سبق 1982، أي فوضاه وعبثه ومغامراته وتكلفته، سعى الخمينيون في إنشاء قوة مقاتلة مجربة ومحترفة دائمة. وأيدوا الفكرة الفلسطينية على طريقة الطاغية السوري. فأرسوا على القضية نهجاً عاماً جعل لبنان واللبنانيين سيفاً مسلطاً دائماً على اسرائيل في خدمة النزاع السوري- الاسرائيلي، و"احتياجات سوريا الأسد فيه، وفي خدمة النزاع الإيراني- الاميركي، واحتياجات المرشد والباسدران فيه. ولا "يعمل" مثل هذا الرسم إلا إذا جُمعت السياسة في حرب "المقاومة"- اسرائيل، وتولاها كلها رأس آمر فوق أطراف طيعة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024