رحيل آدم حنين... مايكل آنجلو الشرق

المدن - ثقافة

الجمعة 2020/05/22
عن عمر ناهز 91 عاماً، رحل النحات والرسام المصري، آدم حنين، مؤسس سيمبوزيوم أسوان الدولي لفن النحت، والملقّب بـ"كاهن النحت" و"سليل الفراعنة" و"مايكل انجلو الشرق" و"كَليم الحجر" الذي ترقى أعماله إلى "الصمت الصائت" بتعبير أحد النقاد، نظراً إلى أهمية تجربته النحتية ومعاصرتها لمراحل مختلفة في الفن المصري والعربي في القرن العشرين والحادي والعشرين. وكانت "المدن" قد أجرت معه مقابلة في العام 2015.

عرّفته مكتبة الاسكندرية بأنه من أبرز النحاتين المصريين منذ بدايات الستينيات. حصل على التفرغ من وزارة الثقافة واقترب من العلامة حامد سعيد، وأقام في مرسم الأقصر فترة أخرى، فاقترب من منابع وفلسفة التراث المصري وتشربها بتعمق وتأمل، ما انعكس في أسلوبه الفني طوال مشوار حياته الإبداعية، في الرسم على ورق البردى بالأكاسيد الطبيعية المصرية: أكسيد الحديد والمنغنيز والكروم مخلوطة بالصمغ العربي، يرسم عليها مساحات هندسية تتسم بالحيوية؛ لليونة أطرافها وخشونة سطوحها، كما يصور أحيانًا رسومًا لأسماك وطيور وحيوانات مبسطة ومتكتلة كأنها تخطيطات قصد أن يمهد بها للنحت؛ بعضها أشبه بالتمائم الشعبية وبعضها الآخر له مذاق فرعوني. وله مجموعة من التماثيل لحيوانات البيئة؛ حيث اختزال التفاصيل وتربيع الأجساد الأسطوانية والإحساس التعبيري بالهدوء التأملي والتأهب للحركة في الحيوان المنحوت. ثم اتجه إلى نزعة أكثر تجريدًا ورمزية؛ حيث عاود التعامل مع رسومه البردية وتجسيم عناصرها في ألواح الإردواز السميكة بالتفريغ، فأصبحت الأعمال ذات بُعدين دون نقلات في التضاريس اعتمد فيها على الخطوط (الكونتورية) وعلى الثقوب والفراغات الإيقاعية...



جاء في سيرته الموزعة أنه ولد صمويل هنري (آدم حنين) في القاهرة العام 1929، ونشأ في حي الشعرية وسط المدينة، في أسرة تعود أصولها إلى مدينة أسيوط في صعيد مصر، وتعمل في صياغة الحلي. عرف المتحف المصري في الثامنة من عمره، حينما ذهب إلى هناك ضمن زيارة للمدرسة، وكانت نقطة تحول في حياته، وتحققت علاقة آدم بالنحت بما يشبع التجلي او "الكشف الطفولي" كما يقول الناقد أسعد عرابي. يقول آدم حنين "كنت طفلاً صغيراً أحب اكتشاف الأشياء حين اصطحبنا مدرس التاريخ إلى المتحف المصري، وهناك رأيت لأول مرة تلك التماثيل الحجرية الضخمة، وانبهرت بالرسوم والكتابات المنقوشة على الحجر، خرجت من المتحف ذلك اليوم كالمسحور. لم تغب عن مخيّلتي أشكال التماثيل التي رأيتها، وكان أول تمثال صنعته بعد هذه الزيارة بأسابيع قليلة تقليداً مبسطاً لما رأيته داخل المتحف، كان تمثالاً من الصلصال أخذه والدي ووضعه داخل ورشته الصغيرة التي كان يمتلكها لصناعة الفضيات، وكانت فرحتي غامرة وأنا أراه يعرض ذلك التمثال على أصدقائه متفاخراً. صنعت بعدها تماثيل كثيرة من الطين ومن الحجر، ولكن يظل ذلك التمثال الصغير هو الشرارة الأولى التي منحتني ذلك الوهج"...



حينما بلغ العشرين قرر أن يصبح نحاتاً، والتحق في مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة، ثم تخرج فيها العام 1953 (تحولت مدرسة الفنون الجميلة إلى كلية الفنون الجميلة بعد ثورة يوليو)، حيث تتلمذ على يد الفنان، أحمد صبري، ثم درس في مرسم أنطوني هيلر في ميونخ عام 1957، وأقام في النوبة أثناء منحته للتفرغ (1961-1969). وتأثر حنين بالفن المصري القديم وعن ذلك يقول في حوار صحافي: "حركة الكتلة ساكنة في داخلها، وعمل الفنان يكمن في أن يجعلها تطفو على السطح، وهذا يتبدى من خلال وعي عميق بعملية المزج بين الثقل والخفة، بحيث يشكل كلاهما الآخر، ويفيض عنه بتلقائية وعفوية، وهذا أحد الدروس الأساسية التي تعلمتها من الفن المصري القديم، فنحت الفراعنة وتماثيلهم لا تزال تطفو فوق سطح الزمان والمكان، وقادرة على أن تمنحك الدهشة في كل مرة تراه".

كما تأثر حنين بالفن الشعبي المصري، من التراث القبطي والإسلامي، في الجوامع والكنائس والقصور الملكية، وفي القلاع والحصون، وأيضاً في التراث الأدبي السردي، وخصوصاً الملاحم والسير الشعبية. زار متاحف، وأقام معارض، واقترب على نحو خاص من فنانين مثل قسطنطين برانكوزي، هنري مور، أرتولد مارتيني، جياكومتي، وغيرهم ممن يشكلون نقطة التحول في لغة فن النحت الحديث. وفي الستينيات اتجه الى تحويل الشكل إلى قناع ورمز ودلالة وينطبق هذا على حالة مجموعة تصميمات نباتية جرى تنفيذها بالحبر في الحرانية العام 1965، رسوم قوية ودقيقة للغاية لنباتات وحبوب يمكنها أن تظهر في بعض الأحيان فظيعة الشكل، لكنها تنضح بطاقة فريدة من نوعها، ثم دخول مفردات الحيوان والنبات والعادات الشعبية (مثل كلب وثلاث قطط) في فترتي الثمانينات والتسعينات، من بينها "نقطة على المحيط" (1980)، "العربة" (1980)، "الديك" (1983)، "كباية وملعقة" (1983)، ومنحوتة صممت من أجل عمل تذكاري وهي "صينية القهوة" (1986)، "مركب شراعي" (1986)، وكذلك منحوتات أخرى ذات أحجام صغيرة ظهرت في مطلع التسعينات: "البوابة"، "هي من تراقب أحوال الليل"، "الهوى" و"لقاء" تعود كلها إلى العام 1990 وفي ثنائيات وإيقاعات خطية متبادلة ومتضادة، والتعامل مع خامات متنوعة، كالجص والخزف الزلطي، الرخام والجرانيت، والاهتمام بلغة التلميح والاختزال في الإشارة إلى الواقع، ثم بعد ذلك الإنشائية الصرحية، ذات النزعة التركيبية، سواء في النحت أو الرسم يقول "الفن بالنسبة إلي هو حفر في الذات واكتشاف لخباياها".


عمل حنين رساماً في مجلة "صباح الخير". وكان التقى خلال أحد معارضه العام 1960، بعالمة الانثروبولوجيا عفاف الديب التي أصبحت زوجته ومناصرته، وأيضًا مديرة وناقدة لأعماله في بداية مسيرته الفنية. وانتقل حنين العام 1971 مع زوجته إلى باريس، حيث أقاما 25 عاماً، كرس نفسه خلالها لفنّه في محترفه الواقع في الدائرة الـ15 في باريس قرب بورت دو سيفر. وعاد بعد ذلك إلى مصر في العام 1996، وكان قد أصبح فنانًا معروفًا على المستوى الدولي، وأقام مسكنه في منزل من الطوب الطيني، بناه المهندس رمسيس ويصا واصف.

وعمل حنين أعوام 1989-1998 مع وزارة الثقافة المصرية في ترميم تمثال "أبو الهول" في الجيزة. وأسس العام 1996 أيضاً "سيمبوزيوم أسوان الدولي لفن النحت"، وهو ورشة سنوية ومعرض يقوم على دعوة نحاتين من أنحاء العالم لتجريب ونحت وعرض منحوتات من الغرانيت المحلي. 
 
يجمع آدم حنين بين فنّي الرسم والنحت فيذكر "حين أتعب من النحت، وتفرغ طاقتي، أهرع إلى الرسم، لالتقاط الأنفاس، وأشحن طاقتي عاطفياً وفنياً، ومن ثم التهيؤ للعودة بقوة إلى النحت.. الرسم فن سريع وبسيط، ولا يحتاج إلى وقت طويل كالنحت، الكتلة في الرسم صورية في علاقتها بالفراغ، أما في النحت فالمسألة تختلف، لذلك أنا أتعامل مع الرسم على أنه معمل أبحاث وأفكار للنحت".



وكان الرسم من بين نشاطاته الفنية، حيث عرفته مصر رساماً ماهراً، لكنه لم يستخدم الألوان الزيتية على القماش، بل أعاد إحياء تقنيات قديمة مثل الرسم على أوراق البردى بأصباغ طبيعية ممزوجة بالصمغ العربي أو تقنية الرسم على الجص التقليدية. أنجز العام 1960 رسوماً لكتاب الشاعر صلاح جاهين (1930-1986) "رباعيات صلاح جاهين"، واستخدم لذلك الحبر الهندي على الورق. وله أعمال في متحف وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة ومتحف الفن الحديث بالقاهرة، وكذلك في حديقة النحت الدولية بمدينة دالاس الأميركية، وقرية الفن بالحرانية ومبنى مؤسسة الأهرام في القاهرة.

ورغم أنه تخطى التسعين من العمر، فمَن كان يرى أعماله، حسبه شاباً، و"أسطة" بالمعنى المصري. وفي نص كتبه في صفحته الفايسبوكية قال حنين: "النور قلب النحت، والجص قلب النقاء. الجص مادة محايدة زاهدة، بعكس مواد أخرى جميلة وحيّة، متأنقة وغنية تزيد العمل الفنى جاذبية وإغراء لأنها تضيف من جمالها الخاص إلى جمال التشكيل كالأحجار القيمة والمعادن النفيسة والأخشاب المنوعة. فى هذا العرض، أحاول الوصول المباشر والواضح إلى الحقيقة بعيداً من إغراءت مادة النحت. أسعى للوصول إلى النحت الصافى والحقيقة العارية.
يبهرنى النور الصافى حين يسقط على مادة محايدة لا تنافسه ولا تتدخل فى جمالة وعذوبته. فقط تستكين المادة النقية لاستقبال النور لتعكسه فى عيوننا على حقيقته البعيدة من أى مغريات ومحسنات. لقد خلق الله سيدنا آدم عارياً".
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024