الفن المعاصر في لبنان:متاحف..وأسئلة

حسن الساحلي

الأحد 2020/01/26
منذ منتصف التسعينات، يحضر الفن المعاصر في لبنان، عبر مؤسسات ومراكز فنية غير ربحية، أشاعت أنماطاً ووسائط لم تكن موجودة سابقا، مثل فنون الأداء والتجهيز والفيديو، مبتعدة بذلك عن الوسائط التي امتلكت زخما قبل الحرب وخلالها، مثل الرسم والمسرح والشعر وغيرها. أمنت هذه المؤسسات فرصة للفنانين اللبنانيين من أجل المشاركة في معارض وفعاليات عالمية، مستفيدة من الميل الأوروبي والأميركي للانفتاح على فنون بلدان العالم الثالث، ما أدى إلى تباعد متزايد للفن المعاصر اللبناني عن الجو الثقافي المحلي، وتقارباً أكبر مع خطابات شائعة في الأوساط الفنية العالمية والعابرة للحدود.

أما اليوم، وبعد اكثر من عقدين، تواجه مؤسسات هذا الوسط تحديات عديدة... جزء منها مرتبط بتراجع الموارد الإقتصادية، وجزء آخر مرتبط بالانتفاضة الشعبية التي أجبرت الفنانين بشكل عام على مراجعة مدى انخراطهم في الهموم المحلية. تقدم ديما حمادة في هذه الشهادة نظرة إلى التحولات التي يشهدها هذا الوسط، مع تغير طبيعة التمويل وظهور شكل جديد من المؤسسات الفنية. تعمل حمادة في مجال البحث الفني منذ سنوات، ويرتكز عملها حول مواضيع مرتبطة بممارسات الفن المعاصر ضمن العالم العربي. شغلت سابقاً موقع Assistant director في "مركز بيروت للفن"، الذي يعتبر إحدى أبرز مؤسسات الفن المعاصر في الشرق الأوسط.

1
بعد أن كان الكلام سابقا يتمحور حول فن الـ"آفان غارد" أو الفن الحديث، اعتمدت منذ بداية التسعينات تسمية الفن "المعاصر" (Contemporary Art) الذي يعني الفن المتزامن (يحصل خلال الزمن نفسه في أمكنة مختلفة من العالم). لا ينفصل هذا التحول عن دخول الرأسمالية إلى الكتلة الشرقية وانفتاح الأسواق على بعضها، بالإضافة لتأثر المزاج العام بوجهات نظر "بوست كولنيالية"، تنادي بضرورة البحث عن الحداثة خارج المركز، وإزالة الفاصل بين الشمال والجنوب أو الشرق والغرب.

طُرح التساؤل يومها "عن ماذا يفعل الآخرون" وشاع الحديث عن وحدة الزمن حول العالم، و"بأن الغرب ليس متقدماً وأن الآخرين ليسوا متخلّفين". لكن كما يقول مارك فيشر، أصبح الزمن مثبتاً في الحاضر، والحاضر هو حاضر النيوليبرالية التي لا تمتلك أفقاً او مستقبلاً سوى الحاضر نفسه، أو الرأسمالية التي تأتي بعدها الرأسمالية إلى ما لا نهاية.

لبنان كان في هذه السردية، جزءاً من الأراضي المجهولة التي يجب اكتشافها، لكن الفنانين اللبنانيين في تلك المرحلة لم يفكروا أنهم يريدون أن يصبحوا عالميين. بكل الأحوال، لم تعد الوسائط القديمة مجدية كما في السابق في لبنان، فإن كنت تريد أن تنتج مسرحاً، لا يوجد مسارح فعلاً تستقبل عملك، وإن كنت تريد أن ترسم لوحات ستصطدم بوجود مئات الرسامين وبظهور أنماط جديدة من التصميم، كما تراجع الشعر أمام أنماط أخرى مثل الرواية... في الوقت نفسه، ظهر الكمبيوتر كوسيلة تحمل فرصا جديدة، كما أن الفضائيات التلفزيونية بدأت تغزو كل شيء، وشاع الحديث في لبنان عن الذاكرة التي تتعرض للمحو وبدأت تتزايد ردود الفعل على ما يفعله الحريري في وسط بيروت... من دون أن ننسى حجم الأرشيف الضخم الذي انفتح أمام الفنانين بما يحويه من كميات لا تحصى من المواد البصرية التي، لا يعرف أحد ماذا يفعل بها تحديداً.
ظهر الفن المعاصر في هذا السياق، حيث رآه كثيرون أكثر مناسبة لرؤية العالم بتعقيداته، من الفنون التي كانت موجودة سابقاً. أما المؤسسات الجديدة فأتت بمبادرة من فنانين يحتاجون لمساحات للعرض تكون بديلة عن الغاليريهات والأمكنة العامة والمهرجانات التي توقفت، وبإمكانهم عبرها ترويج "مسيراتهم الفنية" التي تساعدهم على الدخول إلى السوق العالمي وتعزز فرص السفر إلى الخارج (تمحورت أعمالهم بشكل خاص حول مواضيع مثل الذاكرة، الحرب، والتروما).

ساهمت شركات مانحة مثل "فورد" الأميركية، في دعم المؤسسات الناشئة ولعبت لفترة طويلة دوراً في بناء أرضية يقوم عليها هذا الوسط بشكل عام.

2
لكن خلال العقد الماضي، شهد هذا الوسط تغيرات مهمة وانقلاباً للواقع الذي قامت عليه المؤسسات في الأصل. أحد أسباب ذلك، يعود إلى توقف المؤسسات المانحة عن الإهتمام بالثيمات التي لطالما تمحورت اعمال الفنانين اللبنانيين، بالإضافة إلى تفضيل مؤسسات الدعم ضخ اموالها للفنون التي تركز على البيئة أو "فن الطوارئ" والفن المخصص للدعم النفسي والإجتماعي، الذي نراه عادة خلال الحروب (منذ العام 2015 تقريبا). ساهم افتتاح عدة متاحف في لبنان في تغيير المشهد بشكل عام، مثل متحف آيشتي عام 2015 و"متحف سرسق" الذي خصص قاعتين للفن المعاصر... كما قرر أصحاب عدة مجموعات ضخمة افتتاح متاحف لهم (دلول وسارادار)، ما زاد الضغط على مؤسسات الفن المعاصر التي، شعرت بالمنافسة المباشرة والتهديد (تحدثت مؤسسة "آبيل" ايضا عن افتتاح متحف فني لها قرب جامعة القديس يوسف)، رغم أن هذه المتاحف تنتمي إلى فئة مختلفة عنها، وتمتلك مجموعات ضخمة وتتلقى التمويل عبر قنوات خاصة ومختلفة عن المؤسسات غير الربحية، بالإضافة إلى أن مفهوم فضاء العرض في هذه المتاحف ليس مشابها لمفهومه في مؤسسات الفن المعاصر.

النتيجة أننا اليوم في مرحلة جديدة من علاقة الإنتاج الفني مع السوق، وهناك شكل مؤسسي أصبح تدريجياً خارج السياق بالنسبة للممولين بسبب عدم وجود فنانين سوريين أو عدم القدرة على تطوير مواهب وكوادر جديدة. فاقم هذه المشكلة انخفاض عدد المنسقين الفنيين، وهي مشكلة موجودة من الأساس عززها تراجع عدد الأشخاص المعنيين فعليا بالبحث الفني. لا ينطبق هذا الخروج عن السياق على جميع المؤسسات، فمثلا "أشكال ألوان"، تحاول استدراك ما يحصل، والبقاء ضمن الزمن الفني، من خلال استضافة ندوات نظمتها خلال العام الماضي  مثل Art Entrepreneurship وDigital Earth Symposiu، بعكس ما يحصل مع "مركز بيروت للفن" الذي يتراجع بشكل مضطرد، أقله منذ العام 2017.

في الوقت نفسه، هناك إشكالية تواجه الجميع، هي زيادة عدد المؤسسات الفنية بشكل عام ما أدى إلى تراجع حصة كل مؤسسة من الدعم المتاح لها. فاقمت المشكلة سيطرة مشاريع الدعم الاجتماعي والنفسي والعلاج بالفن على الحصة الأكبر من الإيكو سيستم الفني اللبناني، ولم يتبق الكثير لمؤسسات لفن المعاصر. لذلك، تجد اليوم أن الفنانين يفكرون كيف يمكنهم إنتاج أعمال فنية تلبي هذه التحولات، وتكون مناسبة أيضا للمتاحف التي ستصبح السلطة الفعلية ضمن المجال الفني في غضون اعوام.

من جهة أخرى، مع اندلاع الانتفاضة اللبنانية، أعيد طرح تساؤلات حول هذا الوسط، مثلاً زعمه امتلاك منظور نقدي للأمور، بينما هو متورط في ممارسات رأسمالية ونيوليبرالية حولت الفن إلى منتج لا يختلف عن أي منتج آخر، يستعمل في المضاربة، ويستثمر فيه المتمولون إلى جانب منتجات أخرى (مثل العقارات مثلاً). أو الحديث عن أن "الفنان مواطن في العالم"  Citizen of the world يتساوى مع غيره من الفنانين، وهذه اسطورة بما أن الفنان القادم من العالم الثالث يواجه تحديات من ناحية الحركة والقدرات تفوق ما يواجهه الفنان القادم من أوروبا، أو الفنان المشهور في لبنان يمتلك فرصاً أكبر من الفنان الصاعد... من دون أن ننسى قضايا العمالة والمساواة بالأجر في المؤسسات المعاصرة التي فتح الباب للحديث عنها أكثر مؤخرا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024