هل تستحق القاهرة الانقاذ؟

أحمد ناجي

الأحد 2019/07/28
ذات مرة كنت أجري حواراً صحافياً مع كاتب ستيني قومجي كبير، كتب عشرات الروايات التي لا يذكرها أحد. وعمل في الصحافة لعقود طويلة، وانتهى سياسياً ثعلبياً في زمن المجلس العسكري والرئيس السيسي. أثناء الحوار سألته ما أفضل الحملات الصحافية التي قام بها، في فخر شديد حكى لي كيف قاد في التسعينات حملة شاملة استمرت لشهور ضد وصول الكهرباء الريف المصري!

روى لي كيف ذهب إلى قريته في بداية التسعينات، فوجد الكهرباء قد وصلتها، ومع وصولها تغيرت حياة المواطنين وأصبحوا يسهرون حتى منتصف الليل، ولا يخرجون للجلوس على "المصاطب" عند الظهيرة لأنهم باتوا يمتلكون مراوح دخل المنازل، ولا يتحدثون أو يتسامرون مع بعضهم بعضاً بل يشاهدون التلفزيون. قال لي بحزن "وجدت القرية التي تربيت فيها وكتبت عنها في روايتي تختفي".

يومها انتبهت لخطورة النوستولوجيا والحنين، فهذا الكاتب من مجموعة أخرى مستعدون لحرمان الآخرين من التطور، والحق في التغيير والتمتع بهواء المروحة فقط للحفاظ على تصوراتهم حول الأصول والهوية السليمة، والولاء المطلق الأعمى للحنين.

في كل نقاش حول التراث المعماري للقاهرة، يظهر أمثال هذا الكاتب بدرجات متفاوتة، جميعهم يحركهم هذا الحنين لعالم يزول يسعون للحفاظ عليه. ويساهم في تعزيز موقفهم، سلطة متعالية عن الحوار، وتسير منذ بداية الألفية على مخطط يتحرك على مستويين: الأول تفريغ القاهرة من ثقلها السياسي والإداري بنقل الوزارات والمقرات الحكومية والرسمية إلى مدن صحراوية (6 أكتوبر في خطة جمال مبارك، والعاصمة الادارية في خطة السيسي)، والثاني تحويل القاهرة إلى متحف للأشباح ومول للاستثمار الخليجي.

تسارعت وتيرة تنفيذ هذه الخطة مؤخراً، فحتى بولاق أبو العلا أزيل بالكامل وتجري الآن الاستعدادات لبناء "بلازا" ومجموعة عمارات لصالح مستثمر خليجي هناك. كما نُقل عمال المدابغ من أماكنهم التاريخية في مصر القديمة، ويجري الآن الإعداد لإزالة البيوت المجاورة لسور مجرى العيون، تمهيداً أيضاً لخطة استثمارية جهنمية.

على الطرف الأخر، يقف المثقفون وعشاق النوستالجيا والحنين ومسلسلات أسامة أنور عكاشة، يطرحون حلولا لا تقل بشاعة، وإن كنت مغلفة بحلوى الكلام المزخرف. والحل الذي يكررونه، أن تتضافر جهود المجتمع لتأسيس جمعية بمشاركة رجال الأعمال - رجال الأعمال أنفسهم الذين يهاجمونهم ليل نهار- لتشتري هذه البيوت والمناطق وتحافظ على تراثها المعماري، وتحويلها الى فنادق صغيرة تاريخية أو مراكز ثقافية.

تصلح مثل هذه الحلول بالتأكيد في مدن قديمة أخرى، في الرباط أو تونس حيث الجزء التاريخي للمدينة محاصر بالأسوار القديمة، والكثافة السكانية متناسبة مع المساحة. لكن تبدو هذه الحلول حالمة جدا في حالة القاهرة، فالجزء التاريخي من المدينة القديمة كبير جداً ويتسع كل يوم، فهناك القاهرة الفاطمية، ثم يركب عليها القاهرة المملوكية، ثم تأتي القاهرة الخديوية أو ما يعرف بوسط البلد، وكل عام تضاف مئات المباني إلى قائمة التراث المعماري بسبب تجاوز عمرها المائة عام.

تنفيذ مخطط عشاق النستولوجيا بدهان المباني القديمة، وتحويلها الى اوتيلات أو مراكز ثقافية ليس مستحيلا فقط لأنه بلا جدوى اقتصادية، بل لأنه أيضاً لا يهتم سوى بالقيمة العقارية للمكان، والحفاظ على المظهر الحضاري والتاريخي. بينما يذهب السكان الأصليون إلى مساكن العشوائيات الحكومية، أو يتحولون الى عناصر متخفية تبيع الخردة أو ترص حجارة الشيشة في المقاهي التي، يجلس عليها عشاق النستولوجيا فيشعرون بالأصالة والعراقة والشموخ التاريخي، وأجواء مسلسلات أسامة أنور عكاشة.

محاولات تحديث القاهرة القديمة وتطويرها بدأت مع نابليون بونابرت والحملة الفرنسية، حيث كان الصدام بين تصورات المدن الأوروبية والمدن العربية. فالمدن العربية تتكون من شوارع رئيسية يتفرع منها حواري، وأزقة. بينما تطورت المدن الأوروبية من فكرة الميادين التي تتفرع منها الشوارع. نهض تخطيط المدن الأوروبية على نموذج روما، حيث الشارع لا بد أن يتسع عرضه لثورين بالتالي صممت شوارع المدن الأوروبية قديماً لتكون أكثر اتساعاً بحيث تسمح بمرور العربات التي تجرها الثيران، بينما صممت الشوارع العربية بحيث تسمح بعبور حصان واحد يمتطيه فارس، أو حمار في حالة القاهرة حيث كانت الحمير وسيلة التنقل الأولى داخل المدينة لقرون طويلة.

من الشوارع الرئيسية تتفرع الحواري والأزقة، وتكثر التجمعات المهنية والقبلية داخل المدينة، فكل حارة لها باب يغلق ليلاً، بالتالي مع مجيء نابليون أمر أولاً بإلغاء تغطية أسقف الشوارع وبرفع أبواب الحواري، ووضع مخططاً لتحديث القاهرة يقضي بتوسيع شوارعها، وبدأ بشق ما يعرف اليوم بشارع 23 يوليو، الذي صار بالمناسبة أطول شوارع القاهرة ويربط المدينة القديمة بامتدادها الجديد ويمتد حتى مدينة 6 أكتوبر.

تحديثات نابليون على المدينة كانت لأسباب صحية، إذ إن تصميم المدينة القديم يجعلها عاملاً مساعداً لانتشار الاوبئة والأمراض، ولأسباب تأمينية فعند اندلاع الثورات والتمردات كانت عربات المدافع لا تستطيع السير في شوارع القاهرة.

لم يبن إسماعيل القاهرة الخديوية لأسباب جمالية كما يتصور بعض الحالمين، لأنه اراد بناء باريس الشرق، بل الدافع الأساسي للتحديث هو الأسباب الصحية من خلال ردم المستنقعات الناتجة عن فيضان النيل، وهذه المستنقعات هي ما يعرف الآن بوسط البلد. جميع المساجد التاريخية في القاهرة تعرضت مرة آخرى لإعادة تصميم مع إنشاء شبكات المياة والصرف الصحي في القاهرة، حيث إلغيت "الميضة" واستبدلت بنظام المياه والصرف الجديد.

لماذا أذكر كل هذه الأمثلة؟ لأن تخييل انقاذ القاهرة ليس مجرد تنظيف ودهن والحفاظ على المباني القديمة، بل أحيانا وجود هذه المباني يكون خطرا على سكان المدينة، وعلى انقاذ تلك المدينة.

القاهرة القديمة مدينة من عصر ماض، والحفاظ عليها لا يكون بتجميدها في الزمن، بل في البحث في سبل تطويرها بحيث تظل قابلة للحياة العصرية وتسهل من حياة الناس ولا تكون سببا في شقائهم. من يتجول في حواري القاهرة أو مصر العتيقة يلاحظ مثلا غياب المساحات الخضراء، فلم تعرف عمارة المدن العربية الحدائق أو المساحات الخضراء العامة، ونتيجة لصغر الشوارع، فالسيارات المركونة تتكدس في الشوارع وتلتصق بحيطان المباني ليزداد الحصار والضيق.

لا أعرف السبيل حقاً لإنقاذ القاهرة القديمة، لكني أعرف أن النظر الى الماضي لا يولد غير الحسرة دائماً ويثبت الأقدام في اللحظة الراهنة، اتساءل ماذا لو عكسنا الآية وبدلاً من الحفاظ على الماضى في ثلاجة التاريخ لو فكرنا في تحديث الثابت، في سبيل خلق أنشطة اقتصادية للسكان لا تعتمد على تحويلهم الى قرود للسائح الأبيض، في تطوير انشطتهم التجارية وتحديث ممارستها.

ماذا لو بدلاً من تقديس تاريخ وعمران مدينتنا، فكرنا في أنه ليس كل عتيق جميل ويستحق البقاء، في أن المدينة تمتلئ بالمشاكل الحقيقية واصرارنا على الماضي العريق يعيق أي تطوير حقيقي لها، وفي النهاية ستموت أمام أعيننا حتى لا يكون هناك حل سوى الازالة دائما وبناء دبي مصغرة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024