"المنتفضون" اللبنانيون... أيتام الريوع الناضبة ومشتهو فانوس علاء الدين

وضاح شرارة

الأحد 2019/10/20
"الانتفاضة" اللبنانية التي وُلدت ليلاً، في 17- 18 تشرين الأول (أوكتوبر) الجاري، وعمّت مدن المحافظات وبعض بلداتها في 18 و19 منه، تبدو في مرآة شاشات التلفزيون المحلية والعربية "سوق" خطابة وهجوم على الكلام والعبارة عن خبايا الصدور والقلوب، لا سابق لها. فيصطف الناس صفوفاً في انتظار واحدهم دوره ليسرَّ بالصوت العالي، وأحياناً بالدمع واللعثمة، شكواه، ويخاطب "الثورة" التي يتصوّرها إلهةً مقتدرة تصغي إليه وإلى أمثاله حوله وفي مواضع أخرى، بآذان لا تحصى وعيون واسعة وسع السماء.

وحين يحظى الواحد المنتظر على جمر بالميكروفون، يرتبك، وينقسم شخصين وربما ثلاثة: يلصق الأول فمه بمدخل الكلام وكأنه يخاف على كلامه ألا يصبّ كله في فوهة الآلة أو الجهاز. ويحاول الثاني أن يرى وقع كلامه في الناس حوله، وأولهم وأعلاهم كعباً المذيعة (وهنّ يكدن أن يكنّ المذيعين!)، وفي الناس الذين يتصورهم وراء المذيعة وأمام الشاشة. ويبعث الثالث من سنواته المنقضية، وعمره الأليم أو "الموجوع"، على كلمة ومشتقاتها درجت على الألسنة وفي الخطب، الصور والأحاسيس التي يحاول أن يبثها الجمهور المتخيَّل ويحرك بها لواعجه. ويبدأ معظم المتداولين على الكلام "خطبتهم" بالقول: أريد أن أقول للبنانيين... أريد أن أقول للسياسيين... أريد أن أقول لفلان أو فلان من "الأعيان" وعليّة القوم (زعيم طائفة الخطيب أو الخطيبة غالباً).

ويترجح القول أو الخطبة، ومنذ الجمعة في 18/10 تترجّح رواية الحادثة المتنازعة، بين الشكاوى: من البطالة، من تكلفة الطبابة أو التعليم، من الإيجار، من الهجرة، من الغلاء، من الجوع، من الكهرباء، من الماء، من المواصلات، من الضرائب... وبين استنزال اللعنات على السرقة والنهب والجشع و"الواسطة"، والاستئثار والتقاسم والنِّعم التي يرفل فيها الملعونون وأبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم. وإذا حُملت الشكاوى واللعنات على الأماكن التي يعلو الصوت بها، وعلى لكنات اللاعنين واللاعنات وقيافتهم، بدت ظاهرة الدلالة. واستدعت في اليوم نفسه، أو في الليل وتحت جناحه رداً حارقاً أو لاذعاً ذاعت صوره على الوسائط الاجتماعية. واحتفل صحافيون مبتدئون أو عَقَلَ الانضباط ألسنتهم و"طمّش" على عيونهم، بما يسمّونه، نيابة عن الجمهور، "كسر المحرمات". والحرام هو تسمية أستاذ من هنا، و"سِيِّد" من هناك، و "دولة" من هنالك.

و"سوق" الخطابة، في ضوء ساعات الاستماع الطويلة، فقير، على معنى القول إن آلات السحر قليلة الحيلة قياساً على آلات التعليل والاحتجاج العقليين والسياسيين. فأصحاب الخطب المتلهّفون على الكلام والبلاغ يصبّون جام "الثورة" على المنتفعين والحرامية والمال الحرام، وعلى الحرمان من الكرامة الذي يترتب على جشع المتنفّذين وأصحاب الامتيازات. فالمعادلة صفرية، على قول "المحللين": يشبع المُبْطِنون (أصحاب البطون المليئة) بما يسرقونه من الجائعين، وبما يجيع الجائعين.

ويقود هذا إلى "اقتصاد سياسي" يأخذ به المتكلمون: على أصحاب البطون اللصوص رد ما سرقوه الآن، على "الهواء". وعلى "الشعب" قطع طريق المطار على هربهم وأموالهم- المليارات التسعة في حال رئيس وزراء صيداوي، والمليارات السبعة في حال رئيس وزراء طرابلسي، واللائحة الموعودة لم تتجاوز الاثنين إلى ثلاثة- في جيوبهم، أو في حقيبة اليد عدّاً ونقداً. ويدعى القوم الفاسدون إلى الاستقالة من تلقاء أنفسهم، ورد سرقاتهم، لقاء العفو عنهم. و"الثورة" هي هذه المقايضة المهذبة والمختصرة.

ويسع الأعيان والمقدَّمين، المتحاربين وغير المتحاربين، السخرية المبطّنة أو الصريحة بهذا ومن هذا، وبسذاجته وافتقاره إلى الوسائل والأدوات والمراحل والبرمجة (على معناها السابق والساذج). وهذا، أي السخرية، ما لم يترفّع عنه خطيب الحزب "الكبير"، والداعية إلى التعقّل وانتظار "تغيير المعادلات" حين يحين الحين، ويتربّع داعي الدعاة المحليين في سدّة أجهزة استخبار يقظة ومتغلغلة في نسيج المجتمع والشارع ونبضه الرخو. ويسع آخرين، من الساسة السابقين، الدعوة إلى حكومة خبراء محايدين ومستقلين يتولون، من علياء الخبرة والاستقلال والنزاهة، وبقدرة قادر ليس من طينة هذه الدنيا، تصريف الأمور بالتي هي أحسن.


الولاية
والرأيان، أو الثلاثة إذا احتُسب رأي "الثورة" أو "الانتفاضة"، هي ثمرة تاريخ اللبنانيين السياسي في نصف القرن الأخير، منذ عشية 1975، والميمون. فمنذ تولى "القائد" أو "ولي الأمر" السوري (بعد الفلسطيني وقبل الإيراني) الولاية أو الوصاية على اللبنانيين، واحتل "دولتهم"، أرضها وهيئاتها وناسها، سن فيهم سنّة جامعة ومانعة: على الأمر أن يكون موزّعاً بينهم، وعلى توزيع الغنيمة أن يكون على قدر الولاء (لصاحب الأمر وبرنامجه "القومي")، وفي الطوائف والجماعات المعهودة. وعلى الوزارات أن تكون "وطنية". ولا معارضة في الوطنية: فإما أن تكون وطنياً أو أن تكون عميلاً. وعلى هذا ليس ثمة معارضون ولا معارضة إلا معارضة الخارج والعمالة. فإذا لاح أن معارضة قد تطل برأسها كان الجواب جاهزاً: النفي أو العزل، في خير الأحوال، والاغتيال، وهو حلال كريه ولكنه حلال، في خير الأحوال، في شرها.

ويجازى "الشركاء في الحكم"- على ما كان ينبغي لسعد الحريري أن يقول، فوطنهم هو وطن الشراكة الأسدية الموروثة- والموعودة بعوائد من الريوع اللبنانية. فأُغدقت على الجماعات الشريكة، وعلى رؤسائها والأوْلى منهم بالمعروف، شطور متفرقة: تعويضات المهجرين، وصناديق المحتاجين والمقاولين، ورواتب الموظفين، والمناقصات والتلزيمات، والوكالات والعمولات، وتعويضات الخدمة ونهايتها، والإعفاءات من الرسوم والجباية، والفوائد العالية والضرائب المخفّضة، والغرامات اللاغية...

وهذه كلها انقلبت حقوقاً، بعضها مكتسب وبعضها مستعاد. وتشكّل الوزارات، وينتخب النواب، وتزجى الوظائف بين الدرجة الرابعة وبين الدرجة الأولى، على احتساب دقيق للحقوق والعوائد، والتعويضات، إلى حين وراثة الأرض ومن عليها. وجمهور "الثورة" نشأ على توزيع الغنيمة (الريوع) الشحيحة والناضبة على هذا المنوال. وتأدّب بأدب "معارضة" لا محل لها ولا دور. وأمير "الحزب الكبير" رعى منوال التوزيع هذا، وإن كان مصدر حصته "بيت مال" مستقل. وأدّب "المعارضة" بالأدب الفلسطيني- السوري- الإيراني. وما يسمى "التسوية"، كناية عن تعاهد الرئيس العماد ودولة الرئيس ورئيس القوات تحت عباءة سماحة السيد على انتخاب الأول إلى الرئاسة، جرى على منطق الوحدة الوزارية "الوطنية": المعارضة محظورة لقاء حصة من الريع العام، فلا كيان سياسياً لمن يريد البقاء خارج إطار الريع، ولا كيان مالياً ولا عوائد ولا جماعة، و"في الناس لا شُرَط ولا أنصار"، على قول محمد مهدي الجواهري.

وفي المتظاهرين كان الشُّرط والأنصار السابقون غالباً، كثيرين، ومثلهم الذين خاب أملهم وظنهم وطال انتظارهم. فجاءت المطاليب على شاكلة الأحلام، وأوامر علاء الدين لجُنّي الفانوس السحري: أريد كل ما أتمناه وما هو موجود في جيب الحرامي.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024