"قصة الحي الغربي" لسبيلبرغ.. جميل ولطيف ولا لزوم له

محمد صبحي

الخميس 2022/01/13
في العام 1961، ظهر فيلم "قصة الحي الغربي" من إخراج روبرت وايز وجيروم روبنز، ومنذ ذلك الحين، حجز مكانه كأحد أفضل الأفلام الموسيقية الهوليوودية على الإطلاق. اللعب على حبكة قصة الحب المأسوية لروميو وجولييت، والإتيان بها إلى نيويورك الخمسينيات، مهّدا الطريق لأكبر نجاح في شباك التذاكر لذلك العام، واستمرّ المشوار المظفَّر بالفوز بـ10 جوائز أوسكار، بما في ذلك جائزة أفضل فيلم. لماذا إذن يتوجب على أي شخص مشاهدة نسخة جديدة من المادة نفسها؟ إحدى الإجابات هي أن النسخة الجديدة من إخراج ستيفن سبيلبرغ. إجابة أخرى هي أن ستيفن سونديم، الذي كتب الكلمات المصاحبة لموسيقى ليونارد بيرنشتاين، قد منحها ختم موافقته، قبل أن يغادرنا أواخر العام الماضي. إجابة أخرى، تتمثّل في أن هوليوود تحب معاودة "فورمات" سابقة ومضمونة النجاح، مصداقاً للمثل الأميركي الشهير القائل انه "طالما يعمل، لا تحاول استبداله".

المفاجأة الكبرى في نسخة سبيلبرغ من "قصة الحي الغربي"(*) ليست أن المخرج الذي لم يسبق له إخراج أي فيلم موسيقي من قبل، يتجرّأ في تجربته الأولى في هذا النوع للتصدّي لإحدى الكلاسيكات الهوليوودية، فقد احتوى العديد من أفلامه السابقة على فقرات كوريوغرافية، سواء شملت موسيقى ورقصات أم خلت منهما. الجديد هو أن سبيلبرغ يوقّع ميوزيكال ينفر من كل خيال وفانتازيا. فاختياره "قصة الحي الغربي" - ثاني إعاداته الإخراجية لفيلم كلاسيكي بعد "حرب العوالم" – يأتي ملائماً لتحوّله التدريجي نحو سمت واقعي أظهره عمله منذ فيلم "إنقاذ الجندي رايان" (1998). في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. واستطاع الكاتب المسرحي آرثر لورنتس، والشاعر ستيفن سونديم، ومصمم الرقصات جيروم روبينز، والموسيقي ليونارد برنشتاين - الذين انضم إليهم المخرج روبرت وايز من اجل إنجاز الفيلم الأيقوني – التحايل على محاذير زمنهم وسرّبوا شيئاً من الواقع الأميركي عبر كوة النوع السينمائي (الميوزيكال) الرائج وقتذاك: العرق والطبقة. يذهب سبيلبرغ أبعد من ذلك ويمدّد الواقعية إلى شكل الفيلم ذاته، دامجاً الموسيقى في حقل سينمائي يبدو عسيراً على تلك المقاربة.


كما أسلفنا، أعادت لعبة الرباعي كتابة مسرحية روميو وجولييت، مبدّلين عائلتي مونتاج وكابوليتس في حكاية شكسبير، بعصابتي الغيتس والشاركس في ضواحي نيويورك. الغيتس هم "السكان المحليون"، أبناء أو أحفاد المهاجرين البيض من الطبقة المتوسطة الدنيا. الشاركس هم من الجيل الأول أو الثاني من المهاجرين البورتوريكيين. عندما يقع توني، العضو السابق في الغيتس، في حب ماريا، الشقيقة الصغرى لبرناردو، زعيم الشاركس، تُزرع بذرة المأساة. استخدام النوع السينمائي الترفيهي لتقديم مأساة، وليس كوميديا ​​موسيقية، كان إحدى الثورات التي أطلقتها "قصة الحي الغربي". تقديم وجهة نظر المهاجرين ذوي البشرة الداكنة شكّل واحدة أخرى من فضائل لورنتس ورفاقه، ناهيك عن كلمات الأغاني التي بدلاً من الحب والأحلام كانت تشير إلى الدعارة والجريمة وإدمان الكحول و"تعاطي المخدرات". أيضاً، تقديم شخصية أنيبوديس، الفتاة التي ترتدي وتتصرف مثل الصبيان، وتقاتل من أجل مكانها في العصبة الأخوية الرجولية للغيتس. "تفاصيل" تغاضت عنها هوليوود في أعقاب قانون هايز الرقابي، ربما لأنه كان فيلماً ضخماً وخلفه أسماء كبيرة.

لا يحظى سبيلبيرغ بسمعة طيّبة في نطاقنا العربي، في ضوء مواقفه السابقة والمعلنة من إسرائيل والقضية الفلسطينية، لكنه في ما يخصّ الشأن الأميركي تبقى آراؤه أقرب إلى التقدّمية والاعتدال الوازن. بإدراك لما يفعله من إعادة تقديم عمل كلاسيكي يتناول قضايا غير محسومة إلى الآن، مثل العنصرية والشوفينية المناهضة للمهاجرين، ظلّ سبيلبرغ وكاتب سيناريوهاته المعتمد توني كوشنر ("ميونيخ"، "لينكولن") مخلصين بشكل أساسي للعمل الأصلي، مسرحية آرثر لورنتس التي قدّمها في برودواي العام 1957، بقدر إخلاصهم للكوريوغرافيا الأصلية لجيروم روبنز. لكنه، وبطريقة ما، ينتهي إلى ما بدأ منه.

على سبيل المثال، كان من الممكن أن يدور أحداث "قصة الحي الغربي" في أميركا ترامب، فكرة جذابة للغاية، ومختلفة جذرياً. لكن سبيلبرغ وشريكه فضّلا اتباع نهج أكثر حذراً: ما زالت القصة تدور أحداثها في نيويورك في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. الشيء الوحيد الجديد في الواقع هو الخلفية التاريخية، التي تتابع حرب العصابات ذات الصبغة العرقية وصولاً إلى البؤس المعمّم المفروض على سكانها الملوّنين. في ذلك الوقت، نُفّذ العديد من عمليات المصادرة القسرية بين شارعيّ 60 و72 في مانهاتن، في سياق عمليات "التطوير العمراني" gentrification. النازحون فقدوا منازلهم، ما أدّى إلى توترات بين كل أولئك المضطهدين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لتشارك منطقة صغيرة مع مَن يقاسمهم فيها. يبدأ الفيلم بلقطة طويلة لمشهد هدم تلك البنايات، ليستعيدها في التترات الختامية عندما تتقاطع الجبهات الحجرية مع ظلال غروب الشمس.

ميلانكوليا جميلة، بالطبع، لكنها لا تكاد تذكر التغييرات المتبقية التي أجراها سبيلبرغ وكوشنر. ما يعتقد الاثنان أنه ابتكارات رائدة قد يبدو وكأنه لمسات خفية لعامة الناس. على سبيل المثال، في هذا الإصدار أضيفت ريتا مورينو، التي فازت بجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن نسخة العام 1961، وهي الآن تظهر مرة أخرى في دور مهاجرة تمكنت من الاندماج، من دون التخلّي عن أصولها البورتريكية. أيضاً، مراعاةً للنوستالجيا الصائبة سياسياً، أزيلت مقاطع النصّ الإشكالية، كشطر الأغنية الذي تصف فيه امرأة بورتوريكية جزيرتها الأصلية بأنها "ملاذ قبيح للأمراض الاستوائية، ولم يعد هناك رجال بيض مصبوغون باللون البني لتأدية أدوار اللاتينيين، أو الحديث بالإنكليزية مثل "العملاء الحُمر"، بلغة ذلك الزمان.

كل هذا يكشف احتراماً كبيراً للشخصيات والممثلين والمجتمع اللاتيني والجمهور. لكن يبقى فيلم سبيلبرغ أكثر تأدباً واحتشاماً - في سياق عصره - من المسرحية الأصلية العام 1957 ونسخة الفيلم المبتكرة العام 1961. من ناحية أخرى، لا يوجد ما يُشكى منه في الغناء والرقص. قامت الممثلة الرائعة ريتشيل زيغلر، التي كان عليها الفوز في اختبارات الأداء ضد أكثر من 30 ألف متنافسة، بعمل باهر. لذلك لا يمكن وصف الفيلم الموسيقي الأول لستيفن سبيلبرغ بالفشل. بدلاً من ذلك، هو تحفة بصرية متينة، وإن افتقر إلى الشجاعة والابتكار الخطابي. فيلم لطيف جداً، وجميل جداً، وكلاسيكي جداً، ولا لزوم له على الإطلاق.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024