"أرى شبحي قادماً من بعيد": الإختلاف والتدجين، الهجرة والرحيل

علاء رشيدي

الإثنين 2020/11/16
أُخذ عنوان العرض "أرى شبحي قادماً من بعيد"، الذي قدمته مجموعة "سيناريو" في "مسرح دوار الشمس" بيروت، من مقطع قصيدة لمحمود درويش. على مستوى الحكاية، يفتح لنا العرض نافدة على عالم تسكنه مجموعة من الأشباح غير المرئية، هو تعبير عن رغبة الطفولة والمراهقة في الهروب من الواقع المفروض، إلى عالم الأشباح، عالم الرقص والحركة. جاء في البيان الخاص المرافق للعرض: "نحن نفقد أنفسنا في العالم الحقيقي، لكن عالم الأشباح هو العالم الذي نرتاح فيه، وهو عالم الرقص، الحركة، واللعب. هناك أحلام عن البحر وهناك بحر الأحلام. نقوم بثورة ضد الأموات والأحياء وحتى ضد أنفسنا".

عالم الأشباح
المسرحية ذات طابع حركي كريوغرافي، مستخلصة الموضوعات من التدريبات مع مجموعة من المتدربين اليافعين اللبنانيين والفلسطينيين، وهي الفئات المهمشة التي تركز عليها مجموعة "سيناريو" في عروضها. بدأت المجموعة الشبابية تدريبها في العام 2019، وهكذا عايشت مرحلة التدريبات، أحداثاً عديدة مثل الثورة اللبنانية والأزمة الاقتصادية التي عايشتها البلاد، ومن ثم انتشار وباء كوفيد-19، وهنا بدأت التدريبات عبر شبكة الإنترنت، لكن وقوع حادثة انفجار مرفأ بيروت شجع المجموعة على العودة إلى التدريبات المسرحية لإنتاج العرض، وسعوا إلى تقديم العرض المسرحي قبل تنفيذ قرار الإقفال العام الذي أعلنته السلطات اللبنانية في إطار التدابير الوقائية في مواجهة كورونا.

يمكن اعتبار هذا العرض مميزاً بلغة الأداء الحركي والكريوغرافي فيه، حيث دفع مجرد هواة متدربين ومتدربات لتقديم أداءات مسرحية حركية، بتصميمات راقصة كريوغرافية، غالباً ما تكون غائبة عن نوعية العروض المسرحية القائمة على العمل مع الهواة. لقد اختارت مجموعة "سيناريو"، والمخرجة لمى أمين، ألا تتوقف العروض المسرحية الناتجة عن التدريب والعمل مع الهواة على المونولوغات المحفوظة، والإلقاءات المدروسة، بل غامرت بإستخراج وتدريب المشاركين والمشاركات للوصول إلى لغة تعبّر عن موضوعاتها عبر الحركة، وعبر تحليل الأداءات الجسدية والتصاميم الراقصة. وتنطلق فكرة العرض المسرحي من التجسيد الفني لعالم تدخله الشخصيات بعيداً من الواقع، عالم أشباح، قائم على اللعبية، والسحر، والإبهار. لذلك، يمتلئ عالم المسرحية بمشاهد للشخصيات تؤدي رقصات معبّرة عن الوحدة والصداقة، عن الطفولة والنضوج، وعن الذكريات المدرسية والحاضر.

وكما بيَن النص التقديمي للعرض، فإن العالم الذي يقترحه هذا العرض المسرحي، هو عالم الأشباح، عالم الحركة والرقص. يفتتح العرض على مجموعة الشخصيات المسرحية تقوم بأداءات جمعية راقصة، تتحرك بالتناقض، تتحول أحياناً إلى رقصات ثنائية، ثم تعاود طبيعتها الجماعية. تصل الأداءات الحركية الجماعية إلى درجة الحركات البهلوانية.

كونشرتو الفرد والمجموعة
يُبنى العديد من مشاهد المسرحية على أساس العلاقة بين الفرد والجماعة، رقصات تعبّر عن العزلة والغربة بين شخصية، وباقي مجموعة الشخصيات، ما يشبه نوع الكونشرتو في مجال الموسيقى الكلاسيكية. في نوع الكونشيرتو الموسيقي، تتكون المقطوعة بين آلة مفردة ومجموعة الأوركسترا. كما هو الحال في كونشرتو الكمان والأوركسترا أو كونشرتو البيانو والأوركسترا، كل ذلك يقوم على العلاقة الحوارية-الجدلية-اللحنية بين الآلة المفردة الكمان أو البيانو في حوارية مع الأوركسترا.

تتطرق المشاهد الأولى إلى الشعور بالغربة، حيث تتمايز فاطمة نعيم عن باقي أفرد المجموعة، فتعبّر بانفعالاتها وأفكارها عن شعور بالغربة وبالوحدة، لندرك أن مجموعة الشخصيات الأخرى هي أشباح تريد أن تضمّها إلى عالمها. إنهم يشعرون بتميز عالمهم، كونهم أشباحاً، ويتداولون في ما بينهم قرار ضم الشخصية-المتفردة (فاطمة) إلى مجموعتهم، وتعريفها بعالم الأشباح. في إطار التعبير عن الوحدة، تصوّر فاطمة نفسها بالكاميرا السيلفي، مع أفراد المجموعة من حولها، لكن صورتها على الإسقاط الضوئي في خلفية عمق المسرح تظهرها وحدها. كل صورة تأخذها تدخل الجماعة كاملة في الكادر، لكنها تنعكس في الإسقاط الضوئي، لتظهر في الصورة وحيدة. في تعبير واضح عن العزلة.


نقد نظام التعليم
إن مجموعة أشباح شخصيات المسرحية تستعيد أمامنا طفولتها، مرحلتها الدراسية، فتتم السخرية من نظام التعليم السائد. شخصية أحمد الأصفر، هي التي تقوم بدور الطالب، وبأداء هزلي ساخر يبين لنا السطحية والسخرية من نظامنا التعليمي القائم على التكرار والنسخ بدلاً من تعليم قائم على الإبتكار والإبداعية. كذلك يسخر العرض من أسلوب القصاص، أو العقوبة التي تُفرض على التلاميذ، فحين تثور طالبة على الحركة الجماعية للمجموعة، تتم معاقبتها لاختلافها، لتميزها. لا شك أن موضوعة نظام التعليم السائد هي موضوعة أساسية بالنسبة إلى عرض مسرحي كتب موضوعاته متدربون ومتدربات هواة تتراوح أعمارهم بين 16- 19 سنة، فهو حال مجموعة المشاركين في المسرحية.

أساليب التعريف المقيّدة
يشكو مؤلفو العرض المراهقون والمراهقات من الأسئلة المرتبطة بكيفيات التعارف الإجتماعي السائدة: لماذا هذا الإصرار على الإسم؟ لماذا هذا الإصرار على الكنية حين التواصل أو التعارف على آخر؟ لماذا هذا الإصرار على الطائفة والدين لدى التعريف بأنفسنا؟ العرض يعترض على الأسئلة التي تعرف الهوية وتحددها: من وين؟ من أي طائفة؟ وبالتالي، ينتقد العرض التعريفات السائدة في هويات الأفراد.

المخابرات
في أحد المَشاهد، ترتدي الشخصيات أزياء جِلدية مع نظارات شمسية تحجب العيون، الإشارة واضحة إلى الصورة النمطية التي يظهر عليها رجال المخابرات. جميعهم يتحركون ويتحركن بآلية متماثلة. في المشهد، شخصية سامر زاهر، هي المتفردة، هو الثائر المتمرد الذي يرفض الانصياع إلى حركات جسد الجماعة، في سبيل الدفاع عن حركته الفردية-الذاتية. كما في الفيديوهات الكليبات التي ميزت أغاني فرقة Massiv Attack البريطانية، فإن هناك دوماً فرداً يحاول التمايز عن المجموعة المدجنة، كذلك في الأحداث المسرحية تقاوم شخصية سامر زاهر الإنخراط في الحركات وفي الإنفعالات المنمطة المنمطة الآلية الجماعية، محاولاً الحفاظ على فرديته والاستمرار في خصوصيته. ومع تقدم المشهد، نلحظ محاولات متجددة من قبل المجموعة لتدجين الفرد، لكن سامر يرفع نظره بعيداً، يؤدي حركاته من ألحان داخلية-ذاتية-باطنية يسمعها من جواته، بينما تستمر المجموعة في محاولة تدجينه، ليكون المشهد صراعاً بين دفاع الفرد عن خصوصيته وتميزه، ومحاولات السلطة تحديداً في تدجينه وإدخاله في حركية وديناميكية الجموع.

لكن المشهد يطور هذه الإشكالية بأبعد، ماذا لو أصبح الصراع داخلياً، في جسد الفرد نفسه؟ لم تعد القوة التي تحاول تنميط الفرد، هي المجموعة، بل أعضاؤه وجسده ونفسه، ليصبح بالتالي الصراع الحقيقي والأعمق هو بين الفرد وعادات جسده، بين الشخصية وثقافتها الحركية. لذلك، تتجسد الفكرة بأداء صراع داخلي-ذاتي، صراع بين سامر وجسده. وشيئاً فشيئاً، تبدأ حركته الراقصة التعبير عن رغبته في التحرر من جسده نفسه، فينقسم على ذاته، ذات متمردة على تعاليم الجسد، وجسد خاضع لثقافة المجموعة يفرض إرادته. فيتحول الصراع بين الفرد والمجموعة، إلى صراع بين الفرد وذاته، بين الفكر والجسد، بين العادة ورغبة التميز.

أسئلة المقاومة
في مشهد، تصعد الشخصيات كلها إلى المسرح مبديةً رغبتها في الهجرة والرحيل. منذ العام 2011، برزت في الفن التشكيلي السوري تيمة حقيبة السفر في اللوحات والأعمال النحتية، كان ذلك تعبيراً من الفن السوري عن فكرة الهجرة والرحيل، وكذلك حضرت الحقيبة في المسرح، كما هو الحال مع عرض "سيلوفان- فرقة كون" حيث حضرت حقيبة السفر كغرض مسرحي أساس، بُنيت عليه حكاية المسرحية للتعبير عن ظاهرة الهجرة والرحيل التي عاينتها الثقافة والمجتمع السوري. أيضاً في العرض الحالي، تشكل حقيبة السفر أكثر الأغراض المسرحية حضوراً، وذلك في التعبير عن رغبة الشبان والشابات بالرحيل.

أثناء رحلة الهجرة والرحيل تروي الشخصيات أحلامها: كنت أرغب في أن أصبح دكتورة، كنت أرغب في أن أصبح طباخاً، كنت أرغب في الحفاظ على أحلامي ما أمكنني، وتتكلم الشخصية التالية بالألمانية. كلها تنويعات على فكرة الهجرة والرحيل، وفجأة، من الأداء الراقص، تكتشف المجموعة أنها أمام الحدود، أي حاجز دولي، فيبدأ الجميع البحث عن جوازات السفر. الأوراق الإدارية هي هاجس الشباب السوري واللبناني والفلسطيني، حين يبني أحلامه ورغباته على الهجرة والرحيل إلى عوالم أفضل.

سينوغرافياً، يجسد العرض بحرًا على المسرح، بحر من أقمشة زرقاء تشكل الأمواج على طول مساحة الخشبة، تمر عبرها قناديل ضوئية تشبه قوارب الهجرة التي تخوض غمار البحر ليلاً بفوانيس بسيطة. يرتبط البحر المجسد سينوغرافياً على المسرح، بظاهرة الهجرة غير الشرعية في قوارب الموت، ويجسد البحر الموت غرقاً في سبيل الوصول إلى البر الأوروبي. وهكذا فإن عبور البحر هو حلم الشخصيات، وبما أنها شخصيات مراهقة، فإن الهجرة هي حلم وغاية الشباب اللبناني والسوري والفلسطيني.

عذابات الإختلاف
في العرض تبحث شخصيات المسرحية عن الصداقة، عن رغبة الإنتماء، تتصادم مع المجتمع الذي يفرض ثقافته عليها، وشخصيات تسعى إلى الرحيل والهجرة وتغيير المكان. حكاية الشخصية رانية جمال، هي التي تروي لنا عذابات المختلف، قلقه الدائم من الإشارة إليه بأنه مختلف، ليأخذنا المشهد إلى إدانة العنصرية. العنصرية فعل تقوم به الجماعة تجاه الفرد المختلف أو المتمايز. تذكرنا المسرحية بالصعوبات التي تعايشها صاحبة الجسد المختلف، صاحبة الثقافة المختلفة.

في المشهد الأخير، تقرر المجموعة بالكامل الرحيل أو الهجرة، كل من الشخصيات تتجه إلى يمين المسرح وتؤدي حركة تشبه حركة مجداف الزورق في البحر، كتعبير رمزي عن الرحيل والهجرة، بينما ترفض إحدى الشخصيات -رانية جمال- الرحيل. تبقى رانية شخصية وحيدة تؤمن بتغيير المكان وثقافة الواقع، بدلاً من الهروب، الهجرة والرحيل. لكن المشهد الأخير لا ينتهي حتى تعود الشخصيات التي اختارت الرحيل، إلى المكان الذي انطلقت منه. فتتجمع شخصيات المسرحية عند أقصى يسار الخشبة، ليردد الجميع قصيدة محمود درويش التي استُوحي منها عنوان العرض: 

"أُطِلُّ، كَشُرْفة بَيْتٍ، على ما أُريدْ
أُطلُّ على شَجَرٍ يحرُسُ الليل من نَفْسِهِ
ويحرس نَوْمَ الذين يُحبُّونني مَيِّتاً ...
أُطلُّ علي صورتي وَهْيَ تهرب من نفسها
ماذا سيحدث لو عُدْتُ
طفلاً؟ وعدتُ إليكِ ... وعدتِ إليَّ
ماذا سيحدث ... ماذا سيحدث بعد الرماد؟
أُطلُّ على جَسَدي خائفاً من بعيدْ...
أُطلُّ على شَبَحي قادماً من بعيد..."

من بين العروض المسرحية التي هي نتاج ورشة عمل مع هواة، يتميز عرض "كأني أرى شبحي قادماً من بعيد" بلغته الحركية، الرمزية، الكريوغرافية. فنادراً ما حاولت تجارب مسرح الهواة الذهاب بعيداً في التعبير الحركي الرمزي والكريوغرافي الراقص، كما أن ميزته أنه يشكل نافذة للمتلقي يستكشف من خلالها موضوعات المراهقة المعاصرة، لنكتشف بأنها هي ذاتها الموضوعات التي تشغل ذهن البالغين والمحترفين: الصراع بين الفرد والجماعة، الإنتماء، الإختلاف.. الهجرة والرحيل أم البقاء والمواجهة؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024