"الأخوة الخمسة" لسبايك لي.. لكمة في وجه ترامب

محمد صبحي

الخميس 2020/06/18
بعد وقت قصير من بداية موجة الاحتجاجات الأميركية الأخيرة على عنف الشرطة، نشر سبايك لي على تويتر فيلماً قصيراً بعنوان "ثلاثة أخوة"، مزج فيه مقتل الأميركيين الأسودين جورج فلويد وإريك غارنر مع مشهد من فيلمه الأيقوني "افعل الشيء الصحيح". لا يزال فيلم لي من العام 1989 محتفظاً بقدرته التدميرية وروحه الثائرة كصرخة ضد العنصرية، مثلما لا يزال الواقع الأميركي حزيناً وبائساً، والمخرج المخضرم لا يكلّ من إدانته، حتى في عمر الثالثة والستين.

في سنوات حكم أوباما، مزيّفة التعايش والسلام، لم تكن سينماه الغاضبة مطلوبة بالمقارنة مع الازدهار الذي شهدته تحت حكم ترامب. هجاء النازيين الجدد في "بلاككلانسمان" دشّن عودة لي قبل عامين في واحد من أقوى أعماله. المسألة السوداء دائماً في صميم أعماله، لا يهادن في ثورته ولا يميّع في سخريته، التاريخ والحاضر يلتهبان معاً في صور يهيّجها الغضب وإرث مظالم طويلة. ليس فقط في أفلامه البيوغرافية، مثل "مالكوم إكس"، لكن أيضاً في الأفلام الوثائقية والحفلات الموسيقية والمسرحية؛ يعلو صوته ويغنّي ويصرخ ضد القمع الممنهج والعنصرية المؤسسية والتفوق الأبيض. لا تقتصد سينماه في مشاعرها، ولم تكن الحصافة أحد عناصر قوّتها يوماً، لكن طابعها الأساسي إشعال الشرارات من تصادم وجهات النظر. شراراته الأخيرة، "الأخوة الخمسة Da 5 Bloods"(*)، تبتعث نارها من استدعاء لحظة مخجلة من التاريخ الأميركي المعاصر ومزجها بحاضر ممزَّق وكئيب الأفق.



يُفتتح الفيلم بوصول أربعة أصدقاء إلى مطار هانوي: بول وأوتيس وإيدي وميلفين، جميعهم أميركيون سود في سنٍّ متقدمة، ومحاربون قدامى في فيتنام. لقد عادوا بعد خمسة عقود من نهاية الحرب إلى بلدٍ لم يبارحها رفيقهم الخامس أبداً: نورمان المندفع، قائد وحدتهم في الزمن البعيد، الذي لم ينج من الحرب فدُفن في فيتنام. تتبُّع مكان رفاته وإعادتها إلى الولايات المتحدة، هي المهمة الرسمية للناجين الأربعة. لم يكن نورمان عسكرياً فحسب، بل كان أيضاً قائداً روحياً لهم، فتَّح أعينهم على فداحة وضعهم: جنود سود في الجيش الأميركي، يقاتلون باسم حريات خُدعوا بها مرة تلو أخرى في وطنٍ يستغلهم كوقود مجاني في حربٍ خاطئة. للتذكير: تقدّر الخسائر البشرية لحرب أميركا على فيتنام بنحو 1.4 مليون عسكري فيتنامي بينما تتراوح تقديرات الوفيات بين المدنيين من 2 إلى 5.1 مليون، في مقابل مقتل حوالي 58000 جندي أمريكي، من بينهم 7243 رجل أسود.

في استعادات الماضي التي يعيد فيها الفيلمُ نورمان إلى الحياة، يضيق إطار الصورة إلى نسبة 4:3 الكلاسيكية، ونرى "الدماء الخمسة" (كما يسمّيهم الفيلم) منخرطين في قتال شرس ضد المقاومة الفيتنامية حينما توقع الأقدار بين أيديهم صندوقاً من السبائك الذهبية. لكننا نرى أيضاً نورمان يمنحهم الأمل بمستقبل أفضل وأكثر حرية وموثوقية بعد عودتهم إلى الولايات المتحدة. لقطات مكثَّفة تتحدّد تأثيراتها بوضوح: نصف ذاكرة، نصف رغبة. في الزمن الحاضر، تتسعّ الشاشة ويصبح الفيلم في الوقت نفسه أكثر حركية ومرونة. يقفز سبايك لي مراراً بين صيغ الصور المختلفة، أو يستدعي صور الأرشيف، خاصة من تاريخ الثقافة الأميركية السوداء، في أسلوب مشابه لوضع حواشٍ وهوامش أسفل صفحات كتاب.

في القلب، أربعة عجائز ألّفتهم الحرب وفرّقتهم الدروب، كفّوا منذ وقت طويل عن ممارسة ألعابهم التواطؤية القديمة حين كان عليهم إثبات جدارتهم في ساحة المعركة. بعد عناق دافئ في المطار، لن يمضي وقت طويل قبل تكشُّف التشققات المستحدثة، وما من وسيلة أفضل لبيان اختلافات الرجال من إدخالهم في تجربة عمل مشتركة. إذ لم يكن الحنين وإحياء المشاعر هو ما أعاد الاخوة إلى فيتنام، بل وعد الثروة: فبالإضافة إلى الهيكل العظمي لنورمان، دفنوا صندوق سبائك ذهبية في تلال فيتنام.

هذا صحيح وحقيقي لثلاثة من الأربعة على الأقل، لأوتيس وإيدي وميلفين. أما رابعهم، بول، فحالة فريدة تسترعي الاهتمام والانتباه. في البداية، يبدو الأمر محصوراً في بعض الخشونة وجلافة التعابير، ثم تزداد الإثارة حين يخبرهم أنه من المؤكد اختار ترامب رئيساً، بعدما سئم من كونه دائماً الشخص الغبي، ويريد أن يحصل أخيراً على قطعة من الكعكة. يربت رفاقه  على كتفه ضاحكين، لكن، مع تقدم القصة، سرعان ما يدركون أن صديق الأمس قد خرج عن القضبان بشكل خطير ولا يرى الرحلة إلى فيتنام كمغامرة مربحة، ولكن كرحلة تحديد مصير. حقيقة أن ديفيد ابن بول سرعان ما يظهر من العدم وينضم إلى المجموعة، لا يجعل الأمور أفضل. على العكس تماماً.

ديلوري ليندو، الممثل الذي قام بدور بول، يستحق الإشادة، إذ يقدّم أداء قوياً لا ينسى في دورٍ زاخم بالتفاصيل والتقلبات. كيف يقاتل هذا المخضرم الطويل كشجرة ضد شياطينه الداخلية، وكيف ينكفئ على ذاته مبتعداً أكثر فأكثر عن كل منطق، حتى يُختزل وجوده كله، أخيراً، في تلك النظرة الفارغة للكاميرا. الأمر يشبه مشاهدة فيلم كوبولا الشهير "القيامة الآن" وقد رُوي كاملاً من منظور العقيد والتر كورتز. يستحوذ ليندو على الفيلم، ويقلق استقراره باستمرار، وهو ما لا يتعارض إطلاقاً مع مصلحة الفيلم، بل يدعمها. فهو فيلم عن إرث فيتنام المخزي، وبالتحديد عن الإرث الأسود في فيتنام، الذي لا يغيب عنه الإتزان والعدل فقط، بل يستحيل كذبة جميلة عديمة القيمة مثل عملة نقدية مزوَّرة. وهو نداء يائس للتمسّك بما يبقينا أخوة في مواجهة كل شرور العالم، وأشباح الخلاص الكاذبة، والساسة معدومي الفضائل.



لا تهدف سينما سبايك لي أبداً إلى تأطير موضوعي أو التقيّد بحدود نوعٍ فيلمي بعينه، وهنا يبدو السينمائي المخضرم أقل انشغالاً بالشكل أكثر من أي وقت مضى. فـ"الأخوة الخمسة" ببساطة هو كل شيء في وقت واحد: فيلم مغامرات ديناميكي وسيكولوجي، وبيان سياسي لاذع وتشخيص للراهن الأميركي، وبانوراما سياسية ملحمية، و"بي موفي" مصغَّر على طريقة سام فولر وفيلمه "الخوذة الحديدية" (وهو مرجع مركزي إلى جانب "القيامة الآن" وفيلم لي نفسه "معجزة في سانت آنا")... فوضى أوبرالية وأوبرا فوضوية. من ناحية، يربض خط سردي كامل في الرمال، متلوّناً ومتغيّراً مع تقدُّم الفيلم، مع بعض الشخصيات الرئيسية المفترضة التي لا ندرك قصور معرفتنا بها إلا حينما تمزّقها الألغام الأرضية في الهواء. من ناحية أخرى، ربما يكون إعداد هذا المزيج كلّه حيلة مفترضة تمثّل مفتاحاً خفياً للمشروع السياسي للفيلم، الذي لا يبخل في موالاة الرئيس الأميركي – المتهرّب من تأدية خدمته العسكرية -  باللكمات، لكنه أيضاً باختياره تمثيل فترتي الماضي والحاضر بنفس الممثلين، يقول شيئاً واضحاً عن الماضي الذي هو دائماً مجرد شكل آخر من أشكال الحاضر.

باستثناء قبعة مؤيدي ترامب التي يرتديها بول في فيتنام أثناء بحثه عن الذهب والعظام، يخفي الفيلم أميركا البيضاء في فجوة شكسبيرية (في حين تحضر أوروبا البيضاء، في الشخصية التي يؤدّيها جان رينو، كمستعمر جديد وتاجر حرب)، لكن اتصال العجوز الأسود بمشروع ترامب ليس تعسّفياً بأي حال من الأحوال، بل يحاول الفيلم تعليله: بول أيضاً مهووس بعَظَمة ضائعة، حين التمعُّن فيها، ربما لم توجد أصلاً، لا تفارقه ذكرى نورمان، تمثيل النقاء الثوري داخل عقل يغذّيه خيال المؤامرات.

الصور واللقطات التذكارية المرفقة في "الأخوة الخمسة" محدَّدة بدقة شديدة، ولا مكان فيها للمنظور الفيتنامي بشأن الحرب، ولا، على سبيل المثال، بالنسبة لتيين، المرأة الفيتنامية التي تركها أوتيس حاملاً في بلدها آنذاك. الحنين إلى راديكالية التحرير الأسود في الستينيات ليس هو نفسه الحنين إلى الخمسينيات البيضاء الرائعة. ولكن في النهاية، كما يُظهر فيلم لي بذكاء، فإن كل شوقٍ لماضٍ مثالي يختزن في أعماقه شيئاً مدمراً.

مقاومة دوافع الحنين المُسيَّس إلى الماضي لا تعني نسيان التاريخ أو إهماله أو تفصيله على مقاس تصوّراتنا. "الأخوة الخمسة" مليء بالذكريات ومحفّزاتها من جميع الأنواع. بالإضافة إلى صور الأرشيف ورموز "التحرير"، هناك مارفن غاي على وجه الخصوص: سلسلة كاملة من الأغاني لأشهر مطربي السول تظهر في الفيلم، متشابكة معه، لا مجرد ديكور موسيقي كخلفية للأحداث. في الأخدود الصوتي الدافئ الذي تشكّله أغنيات مثل "بلوز المدينة الداخلية" أو "الطيران عالياً"، تنتفي إنتروبيا التاريخ، للحظات فقط. لكن عندما تنتهي الأغنية، علينا جميعا الاستعداد مرة أخرى لمواجهة وحوش الحاضر والهياكل العظمية وسبائك الذهب والألغام الأرضية.

في نهاية الفيلم، يستعين لي بخطبة لمارتن لوثر كينغ قبل اغتياله بعام واحد يقتبس فيها ناشط الحقوق المدنية كلمات الشاعر الأسود لانغستون هيوز: "أميركا لم تكن أميركا بالنسبة لي أبداً، لكني أقسم أنها ستكون كذلك".. وعدٌ، هو في الواقع أملٌ، لم يتحقق حتى بعد 43 سنة.

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024